15-ديسمبر-2015

(getty)

"إسلام وشيوعية سوا كيف هيك؟! الواحد يا بيكون مسلم يا بيكون شيوعي!"، يقول شقيقي "الملتزم" لأمي التي أبدت لتوها اعتراضًا على تصرفات بعض المقربين. هكذا، يحسم أخي الأمر. الإسلام والشيوعية كاللبن والسمك لا يمكن لهما أن يجتمعا في وعاء واحد.

لكن آراءه هذه لا تعني أمي، التي ظلت متمسكة بشيوعيتها السياسية، حتى بعد أن بدأت بالمواظبة على الصلاة منذ ما يقارب السنوات العشر. لم تجد والدتي ما يمنع من وضع صورة جيفارا إلى جانب القرآن الكريم في غرفة الجلوس. حتى زائرو البيت، ومن ضمنهم الجارات المحجبات، اعتادوا هذا المشهد. لم يعد يصيبهم بالنفور.

في بيتنا أشعر بحيرة من يقف عند شارع فاصل بين ملهى ومسجد من دون أن يعرف إلى أي منهما سينتهي. هل أنا "ملتزمة" كشقيقي؟ أم أنا "شيوعية" على طريقة أمي؟ ولماذا لا أكون ربما أكثر تطرفًا على طريقة شقيقتي التي لم تعد خطب المشايخ وأتباعهم تشكل لها أكثر من مادة للضحك؟

في الواقع، أنا لا شيء من كل ذلك. ذكريات الشيوعيين وحديثهم "المعمر قذافي" عن أمجاد مزيفة يضحكني. خطب المتدينين وفتاواهم التي توزّع مفاتيح الجنة على مستمعيهم كما يوزّع عمال الاستقبال في الفنادق الكبرى مفاتيح الغرف الفاخرة على النزلاء، تصيبني بالضجر.

ورثت أمي انبهار جدي بالأيديولوجيا الذي لم يتخلّ عن شيوعيته إلّا على فراش الموت

أنا، أشبه أمي وأخي وأختي ولا أشبههم. لا أذكر أنني كنت يومًا ملحدة، لكنني أيضًا لم أكن "المؤمنة الصالحة" التي يقتدى بها في كتيّبات تعليم الدين للأطفال الصغار. لم أقتنع بفرضية الحجاب، ولا بفرضية أن الماركسية هي خلاص الشعوب. أحيانًا أشعر بأن كل ما يُتداول عن ماركس ورأسماله هراء في هراء. لم أستطع أن أقرأ الكتاب بنفسي لأنه أصابني بالملل المخيف، لكنني على الأقل لم أتصرف ككثيرين ممن يعدّونه كنزًا من دون أن يقرؤوه. وأمي واحدة من هؤلاء.

لكل امرئ من اسمه نصيب، يقال. ولأمي من اسمها نصيب وافر. يُحكى أن جدي انبهر بإنجازات السوفيت ونسائهم، فاختار لابنته أن تكون "فالنتينا"، ممنيًا نفسه بأن تكون يومًا الأولى في شيء، أي شيء، كما كانت فالنتينا تيريشكوفا أول امرأة تغادر الغلاف الجوي لكوكبنا وترسل للبشر البعيدين قبلة من الفضاء.

ورثت أمي انبهار جدي، الذي لم يتخلّ عن شيوعيته إلّا على فراش الموت. هي ما زالت تحب انبهارها السياسي بدولة لم تعد موجودة. وعندما يستخف أحدنا بهذه الدولة "الشبح"، تعاجله بقصة حذاء خروتشوف الشهير، دليلها على عظمة غابرة ومجد ترفض أن تعترف بزواله. تحب أمي كل من تعلم على يد السوفيت من دون أن تعرفهم فردًا فردًا. "الشيوعية عملوا اللبنانية بشر، الروس علّموهن"، تقول بفخر!

ما زالت تقرأ الجريدة الورقية وتحلّ كل كلماتها المتقاطعة ولم تجرب الألعاب المسلية الموجودة في متاجر الهواتف

وعلى طريقة "كريستيان كيرنر" في الفيلم الألماني الشهير "وداعًا لينين" تعيش أمي في غيبوبة. ما زالت تقرأ الجريدة الورقية وتحلّ كل كلماتها المتقاطعة. للأسف، لم تجرب الألعاب المسلية الموجودة في متاجر الهواتف النقالة لأنها ترفض أن تحمل واحدًا، تمامًا كما ترفض أن تتخلى عن الاستماع يوميًا للبرامج التافهة التي تبثها إذاعة الحزب المحلية منذ أكثر من خمسة وعشرين عامًا.

ربما على أحدهم أن يقول لأمي أن جدار برلين اللعين سقط، وأن الولايات المتحدة تحتل موسكو، كما تحتلنا، بالبرجر والهوت دوغ والدونات. على أحد ما أن يتجرأ ويخبرها أن بوتين "بطل هذا الزمان" ليس شيوعيًا. على أحدهم أن يجد طريقة لإقناعها بأن حزبها أصبح أحزابًا، وأن قادته باعوه وقبضوا ثمنه.

حاولت مرارًا أن أحثها على مشاهدة تحفة فولفجانج بيكر، لكنها لم تمتثل. تفضّل بدلًا من ذلك مشاهدة مسلسل "يوسف الصّدّيق" للمرة الخامسة. لعلها في قرارة نفسها تعرف الحقيقة، لكنها ترفض الإقرار، لا تريد المواجهة. أنا أيضًا لا أريد المواجهة، لأنها حتمًا ستعني التصاقي بأحد المعسكرين إلى الأبد. أفضّل أن أبقى هكذا، إلى أن يعود لينين، أو يظهر المخلّص المنتظر.

اقرأ/ي أيضًا:
"أسلمة" التطرف
مغادرة الأفكار وعقاب الجماعة