قطتنا الصديقة تنام على الأريكة. هذه القطة كسولة، طفيلية، لا تعتمد على ذاتها في توفير طعامها، تظلّ تموء وتنوء واقفة على الشباك وفي الأبواب تستفتحنا كي نفتح لها أو نطعمها. هذه القطة فيها من صفاتنا نحن البشر الشيء الكثير، تتقن المسكنة بكثير من التقنيات، بارعة في سرد إلحاحها علينا بموائها المتغير في نبرته في كل مرة. أشك أحيانًا في أنه يسكنها روح متسوّل عبقريّ كرّس كل حياته ليكون متسوّلًا بارعًا. قطتنا هي كذلك بالفعل. كلما حضرت هذا المشهد تذكرت بعض الأطفال اللحوحين الذين يقفون على الإشارات الضوئية وعلى مفارق الطرق ليبيعوا علب المحارم وعلب عطور السيارات. لا يكفّون عن دفع السائق أو الركاب لأن يشتروا منهم شيئًا، ولا يتوقّفون عن توسّلاتهم مهما عاملوهم بجفاء.

لا تملّ قطتنا من عدم استجابتنا لها، تقف مرة على الباب ومرة على الشباك، تحاول بيدها فتحه، تنجح مرات في ذلك. لتلتقي هي واللصوص البشرية، أفسدت علينا مرة طبختنا الأسبوعيّة، فلعقت اللبن المعد لتلك الحفلة الأسرية المتواضعة. عندما تسللت إلى المطبخ من شباكه. تعسكر عند أحد الأبواب، وتدرك أن بابا آخر قد فتح، فتسرع في لمح البصر، لعلّ أحدنا قد أخرج إليها طعاماً. إنها تستثمر بوعي وبراعة "نظرية ماسلو".

هذه القطة جميلة، ولست أدري هل هي قط أو قطة، ولكنّ جمالها يشي أنها قطة. هكذا أقدر. في العادة نحن نؤنث القطط في الريف، ونذكّر الكلاب، ونحب القطط جميعها، ونكره الكلاب حتى الإناث منها أيضًا.

وبعيدًا عن هذه المسألة الطبيعية في القرية، فإننا من باب آخر، فإننا محظوظون بهذه القطة الشقراء النقية ذات الصوت الجميل والمواء الناعم اللطيف. هذه القطة صديقة لطفلي الصغير، ترافقه أينما ذهب، إذا ركض ركضت وإذا أبطأ أبطأت، وإذا مدّ يده إليها مدّت إليه يدًا. أدرك الصغير هذه اللعبة، فصار يختبرها ليتحقق من المسألة، فيركض لتركض معه ويمد يده لتمد يدها، تعجبه اللعبة كثيرًا، وينفق وقتًا طويلًا وهو يمازح هذه القطة الصديقة. أجرب اللعب معهما فلا تسمح لي القطة بذلك، فتضربني، يضحك الصغير من فعلتي، فأكف عن العبث معها، وأتابع بصمت لعبتهما.

في الحقيقة أنا أحب القطط كثيرًا، وأكره الكلاب جدًا، على الرغم من أنني في طفولتي قتلت بعنف قطًا صغيرًا، ما زلت إلى الآن وقد مضى أكثر من خمسة وثلاثين عامًا على الحادثة أتذكر تلك الصورة التي صار عليها بعد انشق جسمه نصفين بفعل الضربة. أي طفل شقيّ كنت في تلك اللحظة؟

عندما قتلت القط، لم أكن قد تعلقت بالكتب كثيرًا أو الالتزام بالطقوس الدينية، لم يكن شائعًا أيام طفولتي الأولى في الثمانينيّات مفاهيم الرفق بالحيوان مثلما هي شائعة هذه الأيام، لذلك لم أتأثر بعد قتلي القط، ولم أندم على فعلتي إلا عندما كبرت، ولم أتذكّر أن أحدًا من المحيطين بي أنكر ذلك عليّ أو عنّفني. مرّ الأمر ببساطة، مع أننا لم نكن نقتل قطًّا كل يوم. إنما يحدث الأمر صدفة أو خطأ ليس أكثر. لم يكن أحد من قريتنا يتعمّد قتل القطط. كانت أكثر عددًا وحضورًا من اليوم. اختلف الوضع اليوم، ومالت الكفة لصالح الكلاب للأسف. كل صباح عندما أتوجه إلى العمل تصادفني كلاب ضالة كثيرة، بل إنني أجدها أحيانًا تحوم حول بيتي قطيعًا كبير العدد ومتعدد الألوان. أفكر أحيانًا أنها تحاول احتلال البيت أو ما جاوره من الأرض.

بعد هذين الأمرين، الكتب والدين، صرت أرى القطط والحيوانات جميعها كائنات لا بد من أن تعيش، وحرام علينا أن نمسها بسوء. كنت أخجل من نفسي كثيرًا وأنا أقرأ حديث القطة وحديث الكلب وحديث القبرة المفجوعة بفراخها، وصرت دائمًا ما أنبّه صغيري إلى أنه لا يجوز إيذاء القطة، فلا يخزها في بطنها بإصبعه، لأن ذلك يؤذيها.

المهم في المسألة أن قطتنا الصديقة كائن جميل وذكي ولم يعد يزعجني، حتى عندما وجدتها قد تسللت من شباك غرفة الجلوس لتنام على الأريكة. ضحكت من فعلها، ولم أنهرها، كانت متيقظة، فأسرعت للخروج من حيث دخلت.

في ظل هذه الريح الشديدة التي طيّرت أشياءنا، أين ذهبت قطتنا الصديقة الكسولة الملحاحة؟ أفتقدها في هذا الجو العاصف، لا أخشى عليها، بالتأكيد، ولا أفكر فيها بإنسانية زائدة عن الحدّ؛ كأنها لاجئ يعاني الأمرّين: الجوع والبرد، ولكن أفكّر فقط، كيف أن تلك القطة الكسولة التي لم تفارقنا في الأيام المشمسة لتحصل على طعامها ومبيتها تختفي فجأة.

يبدو لي أن عالم القطط عالم غير مفهوم الطبائع، وعليك أن تكون قطًّا لتفهم هذا السلوك المتناقض لقطة كسولة وذكية في الآن ذاته.

 

اقرأ/ي أيضًا:

غرفة رقم 303: مناجم القطط

قصة القط "ماو".. معبود الفراعنة الذي يربّيه المصريون اليوم