كنت دائمًا ما أذهب لذات المكان لأختلي بنفسي، لأنّني أعلم أنّه لا أحد سواي هناك، والجميع موجودون على الجانب الآخر. بعد مرور عدّة أشهر، بدأتُ أرى فتاةً تجلس في ذات المكان، فصرت أراقبها من بعيد وأتساءل: كيف يمكن لشخص أن يأتي لنفس المكان الذي أزوره بعد هذه المدّة؟

كانت تضعُ سمّاعة هاتفها المحمول في أذنها، وتعبث بالهاتف كلّ الوقت. لا أعلم حقّ المعرفة ما إذا كانت تنتظر أحدًا هناك، أم تختلي لتراسل أحدهم، أم أنّها فقدت السبيل إلى الحياة، فقرّرت هي الأخرى اعتزال العالم مثلي! الكثير من التساؤلات باتت تراودني مؤخّرًا، في جلساتها الأخيرة، فهي على حالها منذ المرّة الأولى التي رأيتها بها فيها؛ تجلسُ برهة تحدّق في هاتفها، وترحل. لربّما تمضي ساعات هناك، لا أعلم! ليس هنالك وجودٌ للزمن هنا، في هذا المكان.

ها هي الآن تأتي، أرمقها من مسافةٍ تعلوها قليلًا، وأظنّها الآن تراني، ولكنّها لا تريد محادثتي، أو لا تشعر بوجودي. هل هي عمياء أم أنّها تتجاهل كلّ الأشياء من حولها؟ لا بأس. إنّها تجلس القرفصاء الآن وتنظر إلى السماء. أكاد أرى انعكاسًا ولمعانًا في عينيها. أتساءل، هل ما أراه هو تأثير الشمس التي ضربت جدران البنّ فيها، وانعكست كلوحةٍ فنية؟ أم أنّها دموعٌ تنسابٌ على وجهها شيئًا فشيئًا؟ الآن ترسم على وجهها ابتسامة. ربّاه، كيف تجمع متناقضين في آن واحد؟ أظنّها تُمارس طقوسًا مع محدّدة تخصّها وحدها مع السماء وتلك الشجرة التي لا تجلسُ إلّا في أحضانها، ولا أعلم لماذا! أعتقد أنّ عمر مكوثها هناك قد تجاوز عمر الشجرة ذاتها.

أرى أحدهم قادم من بعيد. من ذاك؟ هل هو الرفيق المجهول التي انتظرته طيلة تلك الأشهر؟ أيأتي الآن بعد أن كانت تبكي غيابه يومًا ما؟ أم أنّها كانت تنتظر أن يعود؟ أم أنّه مسافر؟ أم جاء الآن ليعتذر عن تخليّه عنها؟ لم يكن إلّا أحد المشاة في المكان على أي حال، وما أسوأ ظنوني.

تبعهُ شخص آخر بعد لحظات، نظر إليها من بعيد، وواصل السير وعيناه مثبتتان على المكان، والشجرة وظلّها، وانعكاس عينيها هناك، وربّما رائحتها، وكلّ شيء في جسدها المنتظر، والمُرهق من فرط الغياب أيضًا. لقد كان هذان الشخصان أنا دائمًا! كنتُ الظلّ الذي يرافقها إلى هناك، ويبكي كلّ يوم تطلعُ فيه الشمس دون أن تضرب عينيها. يُراقب الطيور العابرة، وحتّى تلك الأكياس المتطايرة والقطّة الحزينة كذلك. كنت ثغرها الذي يبتسم، والربيع الذي يتكوّن حول شفتيها، وأصابعها. كنتُ الوطن الصغير، وكلّ الأشياء التي كانت في داخلي يومًا، ثمّ ماتت. وكانت لي تلك الصورة: السماء وأمي.

أعدتُ مسح عينيّ ولم أجدها. لقد كنتُ وحدي في ذاك المكان الذي لم يزره بعد ذلك سواي. الجميع، كلّهم، مرّوا على الجانب الآخر، إلّا هي، مرّت من ذاكرتي.

هذا نصٌ مأخوذٌ من كتاب مجهول العنوان والهوية، لكاتبٍ متوفٍّ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جرذان في المقهى

ماء قليل