16-مارس-2022
تحولات في ملف صوماللاند (تويتر)

يشهد التعاطي الدولي مع مسألة صوماللاند الانفصالية عدة تحولات مهمة في الآونة الأخيرة، يمكن أن تفضي إلى تغير الواقع المستقر منذ ثلاثة عقود في الإنكار الدولي لحق الإقليم في نيل الاعتراف الرسمي؛ وترتبط معظم هذه التحولات بانعطافات يمرها النظامان الإقليمي والدولي، تأتي في مقدمتها المواجهة الأمريكية الصينية.

يشهد التعاطي الدولي مع مسألة صوماللاند الانفصالية عدة تحولات مهمة في الآونة الأخيرة، يمكن أن تفضي إلى تغير الواقع المستقر منذ ثلاثة عقود

يمكن تفسير السبب الأبرز لغياب الاعتراف الدولي لصوماللاند -رغم كونها ديمقراطية ومستقرة في منطقة تعوم بعدم الاستقرار أو بالدكتاتوريات العارية، بأنه يعود إلى تزامن إعلان انفصالها من الصومال -أو بالأحرى استعادة السيادة منها في عام 1991 مع نفس فترة انتهاء الحرب الباردة وبروز الولايات المتحدة كفاعل دولي رئيسي وحيد في المشهد الدولي. وعلى الفور، وعقب تفجيرات حصلت في دول الجوار (كينيا وتنزانيا)، أصبحت واشنطن تنظر -ومعها القوى الغربية الأخرى- إلى المسألة الصومالية ككل من خلال مقاربة أمنية؛ بحيث أضحت الصومال في نهاية التسعينات، وقبل الحادي عشر من سبتمبر بعامين، إحدى وجهات مشاريع الحرب على الإرهاب الكونية، وذلك باشتباه الاستخبارات الأمريكية باختباء عناصر شاركت في تفجيرات سفاراتي الولايات المتحدة في دار السلام ونيروبي في عام 1998 في الأراضي الصومالية.

جامع سليمان القانوني في أوكرانيا

بعد ربع قرن من تلك الأحداث؛ بدأت سياسة واشنطن المعلنة في الحرب على الإرهاب في التراجع بانسحابها من كل من أفغانستان والصومال في العام الماضي، وذلك في مقابل صعود مواجهتها الجيوستراتيجية مع الصين. ينضاف إلى ذلك استفاقة واشنطن المتأخرة من أوهامها ببناء "الدّول الفاشلة" عبر التدخلات العسكرية، وهو ما يتضح من المصير المتشابه الذي انتهت إليه مزاعم بناء الدولة في الصومال وأفغانستان رغم كل التكلفة الباهظة التي تركتها التدخلات الخارجية في الحالتين.  

ويرتبط الإحباط الأمريكي في الحالة الصومالية بتعثّر عقد الانتخابات منذ أكثر من عام، والوضع الأمني والسياسي الذي يتجه إلى مزيد من التدهور، والإرهاب الذي صار يتجذر ويتمدد؛ ولكل تلك الأسباب باتت مسألة صوماللاند تجد صدى لدى واشنطن، ولدى أكثر من جهة إقليمية ودولية، ويمكن قراءة هذا الأمر من خلال عدة تحركات جرت في الآونة الأخيرة، وسيكون لديها تبعاتها وانعكاساتها البالغة في مستقبل قضية صوماللاند، وبحثها عن الاعتراف الدولي، وتاليًا على مستقبل الصومال والمنطقة ككل.

في الثالث عشر من مارس/آذار الجاري، بدأ رئيس صوماللاند موسى بيحي بزيارة إلى واشنطن تستغرق عشرة أيام، والتقى في خلالها مسؤولين من البيت الأبيض ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع ولجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس الأمريكي، بهدف إحداث تقارب مع إدارة بايدان وتقديم نفسه كحليف موثوق وبديل عن الحكومة الفيدرالية، مستفيدًا من الهواجس الأمريكية بشأن الوجود الصيني في القرن الأفريقي الذي تزايد في السنوات الأخيرة. فقد أسست بكين أول قاعدة عسكرية خارجية لها في جيبوتي المجاورة، كما أثار التدخل الصيني في الحرب الإثيوبية الأخيرة قلق واشنطن، حين قامت بإرسال طائرات مسيرة لإنقاذ نظام آبي أحمد الذي اقترب من السقوط بيد التيغراي وحلفائهم في ديسمبر الماضي. بعدها بأسبوعين قام وفد من الكونغرس الأمريكي بزيارة إلى صوماللاند، وعقد لقاء مع الرئيس موسى بيحي، الذي قدم استعداده لمناهضة الوجود الصيني في المنطقة.  

بالرغم كم أنه من غير المرجح أن تحقق هذه الزيارة أي اختراق يذكر على مستوى تحقيق الاعتراف الذي تنشده هرجيسا، لكنها ستحقق عدة مزايا سياسية وغير سياسية أخرى على المدى المنظور، منها كسب أصوات مؤيدة من دوائر القرار الأمريكي من خلال تعزيز اللوبي المؤيد لها في الكونغرس والخارجية والدفاع ومراكز صنع القرار الأمريكي الأخرى. وفي هذا السياق؛ ألقى الرئيس بيحي محاضرة في مؤسسة هيربتبج فاونديشن، في يوم الاثنين، وهي مؤسسة تفكير أمريكية رائدة ومؤيدة لصوماللاند، وقد نشرت في السنة الماضية تقريرين أوصت فيهما بمنح الاعتراف الدبلوماسي لصوماليلاند، وكرر المدير العام للمؤسسة، ومن ثم خطاب بيحي نفسه، الدعوة لدعم الولايات المتحدة لتحقيق اعتراف صوماللاند.

تتمثل أولية إدارة بايدن بمواجهة النفوذ الصيني المتزايد في أفريقيا والقرن الأفريقي بصفة خاصة، وقد نصت التوجيهات الاستراتيجية للأمن القومي لإدارة الرئيس جون بايدن، والتي صدرت في مارس/آذار العام الماضي، أن الصين هي المنافس الوحيد الذي يجمع بين الاقتصاد والدبلوماسية والقوة العسكرية والتكنولوجية لتحدي النظام الدولي الحر والمستقر. وتتحدث إدارة بادين ودوائرها الفكرية والاستراتيجية دون مواربة بأن الصين باتت تمثِّل تهديدًا للقيم الديمقراطية. وربما يكون الأمر الأكثر أهمية في هذا السياق أن تفاقم الانسداد السياسي والأمني في الصومال يساهم بشكل كبير في إبراز صورة جارتها الشمالية كشريك استراتيجي لدى الولايات المتحدة في منطقة مضطربة. وهو ما رجحه تقرير نشرته صحيفة وول ستريت جورنال باهتمام الجيش الأمريكي بالتموقع في مطارات وموانئ صوماللاند لمواجهة النفوذ الصيني في القرن الإفريقي.

من جانب آخر، تلقى المواجهة الصينية الأمريكية ظلالها في العلاقات التي تقيمها صوماللاند مع تايوان؛ الحليف الأمريكي الآخر في بحر الصين الجنوبي، وصوماللاند ثاني دولة متبقية تقيم علاقات دبلوماسية مع تايوان في القارة -بعد مملكة إسواتيني الصغيرة. وقد تبادل الطرفان العلاقات الدبلوماسية في عام 2020. وأثار حينها افتتاح مكتب يحمل إسم "تايوان" في هرجيسا حفيظة الصين، بدلًا من "تايبيه الصينية" الذي تستخدمه اللجنة الأولمبية الدولية والعديد من الدول الأجنبية لتجنب الإساءة للصين.

وانتقدت الصين بشدة الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الصوماللاندي عيسى كايد إلى تايوان في مطلع الشهر الماضي، واتهمت تايوان بالسعي إلى تقويض استقلال ووحدة الدول الأخرى. وكان لافتًا رد الوزير الصوماللاندي الذي قال في حديثه مع "رويترز" بلغة متحدية بأنه لا يمكن للصين أن تملي على صوماللاند خياراتها، وأن "فلسفة العلاقة مع تايوان تتمثل في إبحارهم بنفس القارب،" وذهب أبعد من هذا بالحديث عن القيم الديمقراطية التي تجمع بلاده مع تايوان لمواجهة ديكتاتورية الصين.

وجه أهمية هذا التصريح أن تايوان وصوماللاند يسعيان إلى تأمين دعم وحماية واشنطن لـ"نادي الدول الديمقراطية" أمام الزحف الصيني، وذلك لتعزيز موافقهما السيادية والخروج من العزلة الدولية المفروضة عليهما، خصوصًا أن تايوان شهدت عزلة دبلوماسية متزايدة من الدول الأفريقية. حيث فرضت الصين ضغوطًا مختلفة على جميع الدول التي تملك علاقات مع تايوان من خلال دبلوماسية القروض التي تستخدمها بكين كسلاح للضغط.

 وحتى الآن، تحاول بكين إغراء صوماللاند بتنفيذ مشاريع تنموية واستثمارية في المطارات والبنية التحتية لدفعها لغلق مكتب تايوان، لكن إدارة صوماللاند تتمسك بخيار العلاقة مع تايوان لدواعي استراتيجية؛ حيث تسعى بالإضافة إلى ما سبق، الاستفادة من خبرة الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي منذ أكثر من نصف قرن في إدارة العلاقات الدولية دون الحصول على مقعد بالأمم المتحدة.  

وتنظر تايوان من جهتها الى صوماللاند كبوابة للدخول إلى أفريقيا جنوب الصحراء، وتهدف لإيجاد أسواق جديدة لمنتجاتها، ففي النهاية، وبالرغم من قلة عدد الدول المعترف بها دبلوماسيا (15 دولة فقط، بعد أن أصبحت نيكاراغوا آخر دولة أغلقت سفارتها في ديسمبر الماضي)، فإن تايوان تظل قوة اقتصادية كبيرة، وتغزو منتجاتها الأسواق الصينية نفسها. ولذلك تحرص على الظهور بأنها شريك تجاري وإنمائي لصوماللاند، وقد تبرعت في مطلع العام بـ 150 ألف جرعة من لقاح Medigen COVID-19 المطور محليًا، كما حصلت على عقود بتنقيب النفط في صوماللاند.

التطور الآخر اللافت هو مناقشة مجلس العموم البريطاني منتصف يناير/كانون الثاني الماضي قضية الاعتراف بصوماللاند في جلسة دعا إليها النائب غافن ويليامسون، والذي قام بزيارة خلال فترة عمله وزيرًا للدفاع إلى صوماللاند عام 2018. وقد أعطى الإقبال والإجماع المثيرين بين الأحزاب (وهو أمر نادر الحصول) أملًا قويًا في مداولات الجلسة، إلا أن ممثلة الحكومة في الجلسة أصرت على ضرورة إبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه. ويعنى هذا بالنسبة للمملكة المتحدة – كحال الدول الأوربية - معاملة صوماللاند كمنطقة من الصومال الفيدرالي، مع الحفاظ على علاقات غير رسمية معها.

وتمثل بريطانيا لاعبًا مهمًا في تقرير مسألة صوماللاند، فهي المستعمرة السابقة للإقليم، قبل أن ينضم بشكل طوعي إلى الصومال الجنوبي، الذي استعمر من قبل إيطاليا، وهذا حجة تسوقها صوماللاند لدى الاتحاد الإفريقي الذي تنص إحدى بنوده على قدسية الحدود الاستعمارية، وهو ما أكد على حجيته تقرير بعثة الاتحاد لتقصى الحقائق في عام 2005. ولا شك أن تحرك بريطانيا لدعم صوماللاند سياسيًا سيقلب المعادلة القائمة، إلا أن الحكومات البريطانية تتمسك باللازمة المعتادة لديها في القول بأنها مستعدة لاعتراف، لكنها لن تكون الدولة الأولى التي تفعل ذلك. وبالعودة إلى مناقشات النواب الأخيرة، من الواضح أن المبررات الأخلاقية والقانونية والسياسية والاقتصادية للاعتراف بصوماللاند قد تسربت في الخطاب السياسي البريطاني، وهذا الأمر نتيجة للحملات الدؤوبة التي قام بها نشطاء صوماللاند في الشتات على مدى السنوات الماضية.

إقليميًا، يعد رفع إثيوبيا مكتبها التمثيلي في هرجيسا إلى سفارة دبلوماسية مكتملة الأركان تحولًا لافتًا في مسار قضية صوماللاند مع دول الجوار. وتأتي هذه الخطوة في أعقاب الزيارة التي قام بها الرئيس موسى بيحي في 19 كانون الثاني/يناير الماضي إلى إثيوبيا بعد تلقيه دعوة رسمية من رئيس الوزراء أبي أحمد، الذي دفعته محاولة جبهة التغيراي للسيطرة على الطريق الحيوي والرئيسي الرابط بين جيبوتي وأديس أبابا في حرب التيغراي الأخيرة إلى البحث عن منافذ بحرية جديدة، وهي معضلة تواجهها إثيوبيا، ومحور الحديث هنا هو نيتها الاستثمار في ميناء زيلع في شمال صومللاند.

في العموم، باتت مسألة صوماللاند تشهد تعاملا دوليًا وإقليمًا جديدًا لقضيتها التي لديها روافع سياسية وقانونية وتاريخية مختلفة عن باقي الكيانات الانفصالية في العالم. وسيحقق لها الاعتراف الدولي الشرط الناقص منها من شروط الدولة، وهو شرط السيادة وفق ما حددته اتفاقية مونتيفيديو لعام 1933 بشأن حقوق وواجبات الدول؛ فلدى صوماللاند مؤسستها الحكومية الفاعلة والمنتخبة بشكل ديمقراطي، وأراضي خاصة بحدود تاريخية استعمارية، وجواز سفر وعملة خاصة، وتعكس قضيتها في جانب من الجوانب الانسداد الذي انتهى إليه مشروع الدولة القومية الصومالية.

التطور الآخر اللافت هو مناقشة مجلس العموم البريطاني منتصف يناير/كانون الثاني الماضي قضية الاعتراف بصوماللاند في جلسة دعا إليها النائب غافن ويليامسون

والمسألة الملحة هنا، هي ضرورة تجاوز الصوماليين الأفكار القومية التي حلم بها الجيل المؤسس في ستينات القرن الماضي ببناء جمهورية تشمل جميع الصوماليين المنتشرين في القرن الإفريقي؛ وهو مشروع سجلوا نموذجًا صارخًا للفشل فيه، بحيث خلّف هذا المشروع حروبًا حدودية مع دول الجوار، وانتهى بالتدمير الذاتي لأسباب بنيوية كثيرة، لا مجال لحصرها هنا. وبالمجمل، تبقى مسألة تحقيق الاعتراف مرهونة بمدى نجاعة استراتيجية قادة صوماللاند في إحداث اختراق في تناقضات السياسة الدولية وتجاذباتها المتلاحقة.