27-نوفمبر-2023
أفلام عن الملاكمة - لقطة من فيلم Raging Bull (mubi)

لقطة من فيلم Raging Bull (mubi)

لم تتوقف حلبة الملاكمة، تلك المساحة المربعة الصغيرة التي لا تتجاوز 6 أمتار طولًا، و4 عرضًا، عن جذب صنّاع السينما الذين حاولوا اكتشاف أبعادها بوصفها فضاءً شاسعًا بحاجة لاكتشاف.

وعلى الرغم من أنها رياضة واضحة القواعد وبسيطة من حيث المبدأ، إذ يتبادل الملاكمان اللكمات لاحتساب النقاط وربما الفوز بضربة قاضية، لكن تلك القبضات تخفي وراءها وجوهًا تنضح بالمشاعر، وشخصيات تقف على حافة العالم، بل وتستر حركات الجسد المتناسقة من قفز وسرعة لكم وتسديد، عالمًا داخليًا يعج بالتناقضات والتحديات والأزمات.

إنها رياضة مغرية ومحفزة للصورة بوصفها حكاية/ سيرة ذاتية تروي قصة صعود من القاع إلى القمة، أو قصة مشبعة بالدراما تنجرف نحو العنف المنظم، لتعيد ترتيب الحياة وفق منطق استخدام القوة كحل للمشكلات.

تُقدّم الملاكمة في هذه الأفلام بوصفها فضاءً شاسعًا لا يعادل ما يظهر منه ما هو مخفي وراء وجوه الملاكمين وضرباتهم

وكلما اقترب المرء من العنف قل استخدامه له، أو استخدمه بالقدر المناسب وبصورة تسمح بإعادة اكتشاف الذات ومكامن الضعف فيها، وإدراك أن القوي لايمكن أن يبقى قويًا الى الأبد، وبأن إدراك القوة هو في الوقت نفسه إدراك للضعف ومحدودية قدرة الإنسان. وهذا ما يجعل الكثير من ملاكمي النماذج السينمائية يجنحون نحو تبني أيديولوجيات تُعلي من قيم التحكم بالغضب وتدعو إلى التفكير والسلام والتفكّر بفلسفة القوة وما تعنيه بالنسبة للإنسان.

لذلك، بمجرد أن تقترب السينما من حدود الحلبة، فإنها تتسع وتنفتح على مساحات فلسفية واجتماعية شاسعة، كما تأخذ الدراما بالتمدد شيئًا فشيئًا خارج حدود التشويق والألقاب والتنافس، وتطال عالم الملاكم ومحيطه ليصير الصراع خارج الحلبة هو الأصل في نتائج الصراع داخلها.

ربما اقتصرت علاقة السينما برياضة الملاكمة في بداياتها على الاستثمار في الإثارة، وتفعيل فلسفة البعد التطهيري من العنف من خلال تقديمه كمنتج فني آمن للحد من تفشيه في الواقع. ولكن هذا النوع من الأفلام، ومنذ بداياته، حمل مواصفات مختلفة عن تلك التي تحملها أفلام الأكشن والرعب، إذ أطلقت هذه الرياضة إشارات متقدة تبين انحيازها إلى السينما الروائية وإلى ارتباطها العضوي مع الأدب والفلسفة أكثر بكثير من انتمائها إلى السينما التصنيفية التجارية. ويكفي أن يكون الإعلان عن فيلم يتحدث عن سيرة ملاكم ما أو أن تنطوي حكايته على فضاء حلبة الملاكمة، حتى يكون الاشتغال على الحياة والسياق النفسي والاجتماعي المشكّل للحكاية في أعلى درجاته.

إليكم في هذه المقالة قائمة بـ5 أفلام عن الملاكمة أصبحت من الأيقونات لا على صعيد هذا النوع من الأفلام فقط، بل في تاريخ السينما بشكل عام. وربما شكّلت فيها الملاكمة تفصيلًا أو كانت تقع منها موقع الخلفية العامة لأحداث وعلاقات وصدامات درامية ومشهديات خالدة.


1- Raging Bull

يُعد الفيلم أحد روائع مارتن سكورسيزي، ويُعتبر تحفة سينمائية خالصة قدّمها المخرج الكبير بالكثير من البحث والتعمق في دراسة فلسفة السقوط والنهوض من جديد، وبمحاولة تفسير الحضيض والقمم. إنه نقاش بصري ونفسي عالي المستوى عن الخصم الداخلي الذي يهزمك حتى لو انتصرت على خصمك الخارجي.

يُنظر إلى الفيلم بوصفه مقاربة غاية في التأمل والعمق لناحية تحليل الشخصية الإنسانية في ظرفها السينمائي كشخصية حكائية. ورغم أنه يروي السيرة الذاتية للملاكم جيك لاموتا، إلا أن سكورسيزي جعل من حلبة الملاكمة مجرد أرضية شاعرية وطريقة لتحفيز التفكير تجاه التحليل النفسي والدرامي. وقد بدا أن كل هذا الجمال والعمق المنبعثان من الفيلم هما نتيجة لسياق مخبري متفحص يدقق يدّقق في أدق التفاصيل، ويحمّله معنىً يضيء بالتدريج كاشفًا الحكاية وما وراءها وما معناها.

إنه فيلم مصنوع على طريقة "مقاتلي الكاميكازي"، وكأن سكورسيزي يصنع آخر أفلامه وربما لم يكن للمخرج الكبير صب كل هذا الجمال والشغف دفعة واحدة في فيلم واحد، لولا توفر ممثل من وزن روبرت دي نيرو لتكتمل الصورة ومعناها، ويذهب الفيلم بكليته نحو الكمال.

نال دي نيرو "الأوسكار" عن أدائه شخصية لاموتا، بينما حصل سكوريزي على الـ"غولدن غلوب" لأفضل فيلم إلى جانب عشرات الجوائز والإشادات والمراجعات النقدية التي أثنت على هذه التحفة السينمائية.



2- The Fighter

بعيدًا عن عوالم سكورسيزي المتعمقة في التحليل النفسي والدرامي، يأخذنا فيلم "The Fighter" الذي أُنتج عام 2010 عبر حلبة الملاكمة إلى عالم العائلة الأميركية، حيث ينسج من منهج الواقعية الأمريكية حكاية سينمائية مبنية على أحداث قصة حقيقية عن "الأخوين وارد".

ينطلق الفيلم من المنافسة واللكمات إلى استكشاف قيم العائلة في أمريكا، وأين يبدأ الفرد وأين تنتهي العائلة. فالفيلم قصة مركبة حول مفهوم المجد، ومحاولة كل فرد أخذ حصته منه، ويصل ذلك الهوس حد تحول العائلة إلى خديعة ومبرر لابتزاز فرد من أفرادها لتحقيق مراد كل فرد على حدة حتى ينسى الجميع حول من تدور دائرة المجد، وبسبب من.

يروي الفيلم قصة ملاكم معتزل مُني بهزيمة لم يستطع بعدها لملمة شتاته، فنذر نفسه لتعليم شقيقه الأصغر الملاكمة وأصبح مدربه الرئيسي، لكنه يتحكم به ويضيق عليه بدفع أيضًا من والدته التي تهتم بما يجنيه من أموال بعد كل نزال، وتسعى مع شقيقه الأكبر لإيصاله إلى اللقب العالمي، وتنظر للأمر بشكل جلي كاستثمار دون أن يُمنح الملاكم الفرصة للحديث عما يريد أو عن خياراته.

تتشارك الأم والشقيق الأكبر، إلى جانب شقيقاته، في رسم شكل حياة الملاكم وخياراته إلى أن ينتفض أخيرًا ويقرر مواجهة الجميع، ويضع نفسه وما يفضل أولوية قبل أي شيء أو أحد آخر.

نال الفيلم استحسان النقاد، خاصةً أداء الممثل كريستيان بيل الذي نال جائزتي "الأوسكار" والـ"غولدن غلوب" عن أدائه الساحر في الفيلم، إضافة إلى الأداء الأخاذ للمثلة ميليسا ليو التي نالت بدروها "الأوسكار" والـ"غولدن غلوب" لأفضل ممثل مساعد.



3- Southpaw

فيلم خيالي غير حقيقي يبني موضوعه على تفكيك مفهوم الغرور، ويظهره بطريقة ذكية على أنه مرحلة من العمى الذهني الذي يمنح المريض به زاوية ضيقة ومحدودة ينظر من خلالها إلى الحياة، ليكون الخاسر في هذه الحالة هو الإبصار.

تدور حكاية الفيلم حول الملاكم بيلي هوب العظيم، الذي لعب دوره الممثل جيك جيلنهال. يعيش هذا الملاكم في نيويورك ويحظى بشعبية كبيرة. وبعد خسارته نزالًا لحصد لقب بطل العالم بالوزن المتوسط، يعود لتنظيم مباراة أخرى أملًا في حصد اللقب. وخلال المؤتمر الصحفي الذي يسبق النزال، تخرج الأمور عن السيطرة وتتلقى زوجته رصاصة تودي بحياتها فينهار عالم الملاكم بالكامل، ويخسر حضانة طفلته الوحيدة بعد أن بدأ بفقدان السيطرة على نفسه ننتيجة إدمانه على الكحول طيلة الوقت حزنًا على زوجته.

الفيلم رحلة عن الإبصار والنهوض من جديد واكتشاف زيف بريق النجاح، يخوضها بيلي هوب بكل مراحلها حتى يستعيد شعبيته بنزالات الهواة، ثم يعود وينضم لرابطة المحترفين، ويكسب بطولة العالم ويستعيد ابنته. وهو من بطولة فورست ويتكر، ورايتشل مكأدامز، ومن إخراج أنطوان فوكوا.



4- Rocky

أطلق هذا الفيلم الأيقوني الخيالي نجومية سيلفستر ستالون ووضعه في مصاف نجوم الصف الأول في "هوليوود". ويؤرخ النقاد السينمائيون لهذا الفيلم بوصفه تجربة ذاتية عاشها ستالون، الذي كتب سيناريو الفيلم وطاف به على شركات الإنتاج لإقناعهم بإنتاجه بشرط أن يقوم هو بلعب شخصية روكي. ويُرجع النقّاد الشغف والطاقة والدفق الجمالي الذي منح الفيلم هذه المواصفات الأيقونية، إلى أن ستالون كان يعيش كممثل بذات الظروف التي كان يعيشها بطل فيلمه على الورق.

حقق الفيلم نجاحًا تجاريًا غير مسبوق في زمنه بإيرادات بلغت 200 مليون دولار، فيما لم تتجاوز ميزانيته المليون دولار، ناهيك عن الإشادات والمراجعات النقدية الإيجابية والجوائز المرموقة التي نالها الفيلم، حيث حصد عشر ترشيحات "أوسكار" عن مجمل أجزائه، إذ كان النجاح الهائل الذي حققه سببًا في إطلاق عدة أجزاء أخرى حوّلت "روكي" إلى سلسلة سينمائية وعلامة مسجلة لأفلام الملاكمة بعد إنتاج 7 أجزاء منه.

ولا بد من الإشارة إلى أن التأليف والسيناريو كانا لسيلفستر ستالون، بينما كان الإخراج مناصفة بينه وبين المخرج جون أفليدسن.



5- Ali

يروي الفيلم قصة حياة محمد علي كلاي الذي يُعد أعظم ملاكم في التاريخ. وتأتي قيمة الفيلم سرده لحكاية ملاكم يمكن أن تُروى من خلالها حكاية أمة بأكملها، إذ نجح في إجراء مزامنة ملفتة بين حياة كلاي المهنية، وبين ما يحدث خارج حلبة الملاكمة.

أظهر الفيلم، ببراعة، أن النزال يبدأ على الحلبة لكنه لاينتهي عليها. ورصد كذلك التحولات الكبيرة التي مر بها كلاي، ورحلته نحو اعتناق الإسلام، ومواقفه الصارمة والحاسمة المؤيدة لحقوق السود والناقدة لـ"حرب فيتنام". وقد بدا في الفيلم أن نزالاته السياسية والتبشيرية كانت أكثر احتدامًا من نزالاته على أرض حلبة الملاكمة.

لعب شخصية محمد علي كلاي الممثل البارع ويل سميث الذي قدّمها بكل براعة وعمق لدرجة أنه نال ترشيحًا لجائزة "الأوسكار" عن هذا الدور إلى جانب جون فويت الذي رُشِّح لأوسكار أفضل ممثل مساعد. وقد نال الفيلم عدة جوائز وترشيحات، وحظي بإشادات واسعة، خارج سياق أكاديمية الصورة المتحركة.