15-أغسطس-2023
مذبحة رابعة (الترا صوت)

مذبحة رابعة (الترا صوت)

عاد المتهمون في قضية رابعة العدوية إلى السجن بعدما حضروا جلسة النطق بالحكم في 8 أيلول/ سبتمبر 2018، سيماهم في وجوههم من أثر الأحكام الثقيلة، وجوه متجهمة وحزن وبكاء، ليلة من الصمت الجاثم على الصدور في جميع الزنازين، لا أحد يقوى على الحديث أو السؤال عن الأحوال أو النظر في عيون زملاء السجن من قضية رابعة، أتذكر تلك الليلة جيدًا، مأتم وعزاء جماعي عمّ السجن كله.

ضمت القضية أسماء 739 متهمًا من بينهم 300 محبوسين بالفعل، وأوضحت المحكمة نيتها لردع المتهمين عندما أحالت أوراق 75 متهمًا إلى مفتي الجمهورية في تموز/ يوليو من العام نفسه، 75 حكمًا بالإعدام من بينهم 44 شخصًا حضوريًا، 44 زميلًا تقرأ في عيونهم كل مرادفات الموت.

جاءت بقية الأحكام تتراوح بين السجن خمس سنوات حتى المؤبد، إلى جانب 5 سنوات أخرى من المراقبة الشرطية بعد قضاء فترة العقوبة على جميع المتهمين، إلا إن البعض عاد فرحًا مسرورًا فقد حُكم عليه بخمس سنوات فقط، كتم الفرحة في صدره مراعاة لمشاعر زملائه الآخرين.

جميع المتهمين الذين أُلقي القبض عليهم من محيط "عمارة المنايفة" بميدان رابعة العدوية، حُكم عليهم بالإعدام، بغض النظر عن طبيعة الأدلة أو الأحراز أو التحقيقات

عندما صدرت الأحكام، كان المتهمين قضوا 5 سنوات في الحبس الاحتياطي، ما يعني أن الذين حُكم عليهم بخمس سنوات من السجن قد تجاوزا بالفعل مدة حكمهم ووجب الإفراج عنهم، عاد أحد الزملاء مبتهجًا بالحكم عليه خمس سنوات، تعجبت من فرحته لكنك قضيت 5 سنوات في المعتقل، وما زال أمامك خمس سنوات أخرى من المراقبة، فقال لا يهم.

لم يُفرج عن هؤلاء الذين قضوا العقوبة بهذه البساطة، فوجب دفع مبلغ الغرامة الذي تضمنه الحكم القضائي أو حبس جميع المتهمين 5 أشهر إضافية، وهكذا قضى المتهمين 6 أشهر أخرى في السجن

لم تنقص فرحة المحكومين بخمس سنوات بعد علمهم بضرورة قضاء 6 أشهر إضافية، لم أر ذاك الزميل مبتهجًا ومتفائلًا مثل تلك الفترة، تعجبت أمره وسألته مجددًا ألست حزينًا على السنوات التي ضاعت من عمرك وعلى الشهور المتبقية في حكمك؟ رد مجددًا: "لا يهم.. على الأقل أصبحت أعرف موعد خروجي من السجن"، ثم أضاف باستهانة وتهوين: "6 أشهر إضافية.. لا شيء".. مجرد معرفته بموعد إفراجه هو انتصار بالنسبة إليه، يمكنه الصبر والانتظار.

عمارة المنايفة وما حولها!

علمنا فيما بعد من حيثيات الأحكام القضائية التي صدرت، أن جميع المتهمين الذين أُلقي القبض عليهم من محيط "عمارة المنايفة" بميدان رابعة العدوية، حُكم عليهم بالإعدام، بغض النظر عن طبيعة الأدلة أو الأحراز أو التحقيقات، كان قرارًا سياسيًا خالصًا. وعمارة المنايفة هي بناية قيد الإنشاء وأحد أبرز البؤر بميدان رابعة العدوية التي احتمى بها عدد من المتظاهرين وعدد من المسلحين حسب روايات الأمن وحسب روايات بعض شهود الواقعة أنفسهم.

أحد الزملاء الذين حُكم عليهم بالإعدام، لم يكن ينتمِ لجماعة الإخوان المسلمين، لكنه محب لتيار الإسلام السياسي، ملتزم دينيًا ولديه قناعاته الشخصية والضمائرية التي تحرك أفعاله، ابتعد هذا الزميل عن تيار الإسلام السياسي بعد اعتقاله لكن حافظ على ممارساته الدينية بشكل فردي.

تحدثتُ معه عن دوافعه للانضمام لاعتصام رابعة العدوية، فأخبرني أنه رأى الناس تُقتل، فأخذ دراجته النارية واتجه صوب الاعتصام ليس لدعم المتظاهرين، ولكن لإنقاذ ما يمكن من الضحايا والمصابين، كان ينقل المصاب على دراجته النارية إلى أقرب نقطة يمكن علاجه بها ويعود مرة أخرى لينقل مصاب آخر، وهكذا غرقت ملابسه ودراجته بدماء الضحايا محاولًا إنقاذهم، ولحظّه العاثر قُبض عليه من محيط عمارة المنايفة، وصدر عليه حكمًا بالإعدام، فقط لأنه كان ينقل المصابين ويحاول إنقاذ الأرواح.

أما الزميل الآخر الذي يحكي لي عن قصته، فكان أكثر دراماتيكية وأكثر سينمائية، تخليت صورته على شاشة سينما في فيلم ميلودراما يميل فيه المخرج إلى تعظيم الأحزان والمبالغة في الأحداث المأسوية وفي الانتقام من أبطال الرواية، هذا السجين الذي حُكم عليه بالإعدام هو الآخر، لم يهتم أبدًا بالشأن السياسي ولا بصراعات الحكم لدرجة أنه لم يعلم عن وجود اعتصام بميدان رابعة العدوية، وفي أثناء عودته من عمله في الصباح الباكر في ذلك اليوم، بدأت عملية فض الاعتصام ووجد نفسه عالقًا في المنتصف بين وابل من الرصاص، لم يعرف أين يذهب ففر هاربًا يحاول الاحتماء بأي شيء أو الخروج من هذه المنطقة ليجد نفسه في مواجهة عمارة المنايفة!

10 سنوات على مذبحة رابعة، وما زالت العدالة غائبة، وما زال الضحايا في السجون.. نأسف لقض مضاجعكم، إنها ذكرى المذبحة وحسب، فكل عام وأنتم بخير

يدخل إلى العمارة ويصعد الدرج إلى الأعلى ظنًا منه أنه يهرب من الخطر، وصل إلى سطح البناية ليجد بعض المسلحين الذين لم يعرف هويتهم وإذا ما كانوا من المتظاهرين أو من قوات الأمن، مجهولون يحملون أسلحة، فيعاود أدراجه مسرعًا نحو الأسفل مجددًا ليجد في مواجهته قوة من الأمن تصعد الدرج وأحد الضباط يوجه السلاح إلى رأسه، يقول الزميل إن آخر ما يتذكره أن الضابط قال له: "خسارة فيك ثمن الرصاصة"، ثم دفعه من البناية ليسقط جسده على سقالات البناء ويفقد الوعي ويدخل في غيبوبة تستمر لشهور.

أفاق السجين من غيبوبته ولا يتذكر إلا آخر جملة نطقها الضابط "خسارة فيك ثمن الرصاصة"، ليجد نفسه متهمًا في قضية رابعة العدوية وبعد خمس سنوات من السجن يصدر ضده حكمًا بالإعدام في 2018!

مذبحة فض اعتصام رابعة العدوية، حدثت في 14 آب/أغسطس 2013، وتعتبر أكبر عملية قتل جماعي في تاريخ مصر الحديث، حيث قُتل ما لا يقل عن 1000 متظاهر، فضلًا عن آلاف المصابين ومئات المعتقلين الذين قبض عليهم في أثناء وبعد فض الاعتصام، والذين كل ذنبهم أنهم عاندوا الموت واستمروا في الحياة عندما قُرر لهم أن يموتوا.

10 سنوات على المذبحة وما زالت العدالة غائبة، وما زال الضحايا في السجون.. نأسف لقض مضاجعكم، إنها ذكرى المذبحة، فكل عام وأنتم بخير.