29-سبتمبر-2022
غرافيتي في مصر

في نهاية تموز/يوليو الماضي، طرحت مجلة الإيكونوميست عددها الأسبوعي، والذي أثار زوبعة من الجدل على مواقع التواصل العربية عمومًا، والعراقية خصوصًا. إذ نشرت كاتبة عراقية مقالًا تتناول فيه قضية سُمنة النساء في المنطقة العربية تحت عنوان "لماذا النساء أكثر سُمنة من الرجال في العالم العربي؟". ولأن مواقع التواصل منحت الجميع حق الكلام والجدال، بما في ذلك محدودي الفكر والذكاء والجاهلين قبل العلماء، فإن الجدل في النهاية -وكالعادة- ابتعد عن جوهر المشكلة وموضوع المقال، ليحصر الإشكالية كلها في صورة السيدة المرفقة مع المقال (وهي فنانة عراقية)، وهل خضعت تلك الصورة للتعديل بالفوتوشوب لتبدو صاحبتها أكثر سُمنة أو لا. وما تسفيه النقاش وابتعاده عن جوهر المشكلة، التي باتت تشكل خطرًا حقيقيًا يضاف إلى قائمة الأخطار التي تهدد حياة النساء في العالم العربي والعالم أجمع، إلا وسيلة وتكتيك دفاعي تلجأ إليه مجتمعاتنا العربية الذكورية دائمًا، كلما طرقنا بابًا لنناقش شيئًا من قضايا وهموم النساء في المنطقة.

هل يعني ذِكْرُ بقاء النساء العربيات في المنزل، وعدم الخروج منه للعمل كسببٍ من أسباب السُّمنة في المنطقة أن النساء العربيات العاملات لا يواجهن أيضًا مشاكل تتعلق بالوزن

رغم اتفاقي مع أهمية وجديّة القضية التي يطرحها ذلك المقال، إلا أن اختلافي الكبير كان مع ما طرحته الكاتبة من أسباب للمشكلة. إذ يحصر المقال أسباب بدانة النساء في العالم العربي عمومًا في الفقر، والبقاء في المنزل، وتجنب ممارسة الرياضة خوفًا من التحرش الجنسي، بالإضافة إلى الاعتماد بشكل كبير على الخبز والكربوهيدرات في الأنظمة الغذائية. وأخيرًا يذكر المقال ميل الرجال العرب بشكل عام للأجسام الممتلئة.

لعل أهم ما علينا أن نتطرق إليه بداية هو العنوان. فكون نسبة النساء اللواتي يواجهن مشكلة السُّمنة أعلى من نسبة الرجال لا يعني أن نسبة كبيرة من الرجال لا يعانون من ذات المشكلة، أو أنه يمكن وصفهم بالصحة والرشاقة مقارنة بنساء المنطقة. فالنساء في كثير من مناطق ودول العالم أكثر سُمنة من الرجال لأسباب بيولوجية. كما أن قدرة الرجال على إنقاص أوزانهم أسرع بكثير من قدرة النساء عمومًا. وما تمر به أجسام النساء من تغيرات بعد الحمل والولادة المتكررة -خصوصًا في مجتمعات لا تتهاون في مسألة الإنجاب- يجعل الأمر تحديًا حقيقيًا. لذا فإن العنوان بكل تأكيد مضبب وغير منصف؛ فالنساء في الأمريكيتين مثلًا أكثر سُمنة من الرجال رغم الاختلاف الثقافي والاجتماعي الكبير عن المنطقة العربية. 

وهل يعني ذِكْرُ بقاء النساء العربيات في المنزل، وعدم الخروج منه للعمل كسببٍ من أسباب السُّمنة في المنطقة أن النساء العربيات العاملات لا يواجهن أيضًا مشاكل تتعلق بالوزن؟ لا أظن أن نسبة النساء العاملات اللواتي يعانين زيادة الوزن والسُّمنة نسبة قليلة أو حتى نسبة يستهان بها. فالمشكلة في الحقيقة تشمل جميع النساء في العالم العربي؛ العاملة منهن وربة المنزل.

يتراوح طول النساء في البلدان العربية بين 150 سم (فلسطين) و162 سم (لبنان)، ويبلغ متوسط الطول في دول فلسطين والعراق وسوريا والأردن ولبنان حوالي 158 سم، وهي أرقام متواضعة في حال مقارنتها بأطوال النساء في أوروبا والولايات المتحدة. إضافة لقصر القامة، تمتاز أجسام نساء المنطقة عمومًا بصدور وأرداف وأفخاذ ممتلئة، وقد تم تجسيدها من خلال التماثيل والنقوش التي عُثر عليها في المنطقة منذ الأزل. وهذا أيضًا ما تؤكده نساء المنطقة منذ قرون من خلال طريقة رقصهن المعتمدة بشكل رئيسي على تحريك الأرداف والصدر.

مع ذلك، تبدو علاقة النساء بأجسامهن في العالم العربي غالبًا علاقة عدائية وغير صحية. فالمرأة التي تتربى على فكرة أن جسمها عورة وفتنة، تزدريه وتحاول جاهدة أن تخفيه، وتشعر بالذنب حين يصبح ذلك الجسد مادة ناضجة مكتملة، ويصير سببًا لجذب الجنس الآخر واستفزاز رغبته. وهكذا يقع اللوم على عاتقها، وتتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية -إن لم يكن كلها- حين تتعرض للاعتداء الجنسي أيًا كان شكله. لذا تفرض عليها المعتقدات الدينية أن تخفي كل تفاصيل جسدها (نحيفًا كان أو بدينًا) تحت أمتار وأكوام من القماش، تجنبا لوقوع الفتنة واستفزاز الرغبة، ليصير الجسد محجوبًا. وغالبًا ما تكون تلك الأقمشة ذات ألوان داكنة؛ فالألوان الزاهية والفاتحة عمومًا غير مرغوبة، تلفت النظر لأجساد النساء ووجودهن. وهو أمر لا تحبذه المجتمعات العربية المتدينة والمحافظة إجمالًا، حيث السعي لتغطية النساء وحجبهن، أمر لا تتوانى عنه الأكثرية. لعل ذلك السعي المتواصل لحجب النساء وإلغائهن، من خلال طريقة لبسهن هذه، تعد من أهم الأسباب التي تدفع النساء إلى إهمال وتجاهل أشكال أجسامهن.

إن مناقشة أجسام النساء من وجهة نظر ثقافية واجتماعية دون التطرق إلى نظرتهن للجنس وعلاقتهن به يبدو أمرًا غير منطقي وضربًا من الخيال. فنظرة النساء العربيات للجنس تلعب دورًا جوهريًا في طريقة تعاملهن مع أجسادهن. أذكر مرة عندما رفضت مشاركة مجموعة من زميلات العمل تناول وجبة الغداء لتعارضها مع حميتي الغذائية قول إحداهن: "تعالي! لا أحد يستحق أن تحرمي نفسك لأجله". ولا عجب أن تسمع جملة كهذه مرارًا وتكررًا؛ فالنساء في العالم العربي يعتقدن أن أجسامهن أشياء لا تنتمي لهن، بل إن تلك الأجساد ملك للرجال، وأداة لمتعتهم الخاصة، فتبدو المرأة دائمًا خارج المعادلة الجنسية، وكثيرًا ما يبدو الجنس متعة لطرف واحد. هكذا تصبح أجسامهن أداة لمتعة الرجل، يشكلها كما يحب، ويشتهي أو تعاقبه هي بإهمال ذلك الجسد، بعيدًا عن التفكير بمدى تأثير السُّمنة على صحتها، وتهديدها لحياتها.

تنبذ المرأة في المجتمعات العربية المتشددة الجنس، ولا تتحدث عنه ولا تظهر اهتمامًا به أو سعيًا إليه. كما تكون المرأة الحريصة على مظهرها، والمهتمة بشكل وتفاصيل جسمها، موضعا للشك والريبة والنقد. يكلفها الأمر حياتها أحيانًا لمجرد وجود شبهة أو شك. 

لا بد لنا أن نتطرق لفكرة مهمة يطرحها المقال السابق ذكره، وكثير من الباحثين ممن تناولوا ذات القضية، حيث تُربْط سُمنة النساء غالبًا بفقر المجتمعات العربية. تطرح الكاتبة الأنظمة الغذائية الغنية بالكربوهيدرات في دول مثل العراق ومصر كأمثلة. ولا نختلف أبدًا على أن ثمة رابط بين الفقر والسُّمنة، ولكن كيف لنا في الوقت ذاته، أن نفسر نسب السُّمنة المرتفعة جدًا عند النساء، في دول الخليج الغنية مثل قطر والسعودية حيث تعد المرأة هناك من أكثر نساء العالم رفاهية. فقد بلغت مثلًا نسبة السُّمنة بين النساء السعوديات 67% في عام 2017. ألا يجعل ذلك الأمر مرتبطًا بالناحية الثقافية والاجتماعية أكثر من ارتباطه بالناحية الاقتصادية؟!

إن مناقشة أجسام النساء من وجهة نظر ثقافية واجتماعية دون التطرق إلى نظرتهن للجنس وعلاقتهن به يبدو أمرًا غير منطقي وضربًا من الخيال

 

أذكر جيدًا في بداية استقراري في العاصمة الألمانية برلين تلك المقارنات التي رحت أعقدها في رأسي بين الثقافتين العربية والأوروبية، حيث كان الطعام من أهم المواضيع التي تخلق اختلافًات كبيرة وغالبًا لصالح المنطقة العربية. ففي العالم العربي يُطبخ الطعام ويُقدم على المائدة بكميات وفيرة يضاف إلى ذلك تنوع المطبخ الشرق أوسطي وشعبية الأطباق الدسمة في المنطقة على حساب الاطباق الخفيفة. كما تعتبر وجبة الطعام التي تجمع حولها العائلة (سواء كانت الغداء أو العشاء)، طقسًا يوميًا لا تتخلى عنه أغلب الأسر؛ بل لعله يعتبر الطقس العائلي اليومي الأهم على الأطلاق.

لا يعتبر الطعام في الثقافة العربية حاجة تشبه حاجة جسم الإنسان للهواء والماء؛ بل يتعدى ذلك ليصبح طريقة يعبر فيها العربي عن اخلاق مثل الكرم والمبادرة والتكافل. والكرم مسألة حساسة ومهمة في الثقافة العربية. أما التكافل فقد حرصت عليه النصوص الدينية، حيث جاءت التوصية واضحة ومباشرة: لا ينام أحدكم وجاره جائع. كما يصبح الطعام أيضًا طريقة لإظهار الترحيب بالضيف، وإبداء الرغبة في بناء العلاقات الاجتماعية، وطريقة للتعبير عن الفرح، ووسيلة لتخفيف عن الآخرين في أحزانهم من ناحية أخرى. كما يستعمل أيضًا كمؤشر للدلالة على حجم الرفاهية الذي يعيش فيه الفرد العربي بشكل عام والمرأة بشكل خاص؛ لذلك، تغزل الشعراء العرب قديما بالمرأة السمينة في أشعارهم فهي حتمًا ذات حسب ونسب، وتعيش مدللة مرفهة في كنف عائلتها. ولا نبالغ أيضًا حين نقول إن بعض الأطباق تستخدم عند العربي للتعبير عن الانتماء والاحتفال بالهوية الوطنية؛ فالمنسف مثلًا يتجاوز كونه طبقًا من الارز واللحم واللبن، ليصبح رمزًا وطنيًا في الأردن؛ والعراقيون يعبرون عن انتمائهم وحنينهم للعراق من خلال تقديم طبق الدولمة. نذكر أيضًا المسخن في فلسطين، والكسكسي في المغرب. هكذا تقدم الموائد الضخمة في جميع المناسبات سواء الاجتماعية أو الدينية وحتى الوطنية.

في آخر عقدين وعلى مستوى العالم أجمع، ظهرت حملات تدعو لقبول الذات، والتصالح مع أشكال أجسامنا وحبها، مهما كانت أحجامنا، ودعمت الحملات النسوية هذا النوع من الدعوات، تحت مسميات التحرر من أحكام المجتمع، وحرية اختيار شكل الجسد (بغض النظر عن تأثير ذلك على صحة النساء). أما مواقع التسوق، فقد صارت تخصص قسمًا للأجسام والمقاسات الكبيرة في خطوة غير مسبوقة لزيادة المبيعات داسّين في ذلك السم بالعسل. ظهرت بالتزامن مع ذلك أيضًا مواقع التواصل الاجتماعي والتي عززت ذلك التوجه مرارًا وتكرارًا من خلال صناعة المحتوى الداعم له من خلال المدوّنات و"الفاشينستيات"، بل إن الأمر وصل لحدود الجنون، حيث خصصت فئة أخرى من المؤثرين محتوى قنواتهم حصريًا لتناول كميات كبيرة جدا من الطعام أمام الكاميرا والمتابعين. أمام كل هذا وجدت المرأة العربية نفسها في مواجهة تيارات جديدة تعفيها من القلق والمحاولة وتقبلها بغض النظر عن شكل جسمها. صارت السُّمنة والجسم ذو الانحناءات موضة وأمرًا مقبولًا، بل ومرغوبًا، حيث صارت رغبة النساء في تقليد مشهورات تلفزيون الواقع مرضًا ينتشر كالنار في الهشيم، خارجًا عن كل حدود السيطرة.

أما عن جزئية عدم ميل النساء العربيات لممارسة الرياضة، فلا أظن أن الأمر متعلق بمسألة التحرش الجنسي بالدرجة الأولى، لكنه سبب يضاف إلى أسباب أخرى أكثر جوهرية. فالبنية التحتية، ومساحات الأرصفة في الأساس، لا توفر مكانًا مناسبًا لممارسة الرياضة. كما تفتقر معظم البلدان العربية للحدائق والساحات التي قد توفر مكانًا آمنًا للمشي أو الركض. ولكن هذا لا يعني عدم توفر المدن الرياضية ومراكز اللياقة البدنية. فعلى الرغم من رمزية أجور الاشتراك في تلك المراكز والأندية، وعلى الرغم من توفر خيار الفصل بين الجنسين في كثير منها، لتوفير أقصى درجات الخصوصية و"الحماية" للنساء، إلا أن إقبال النساء عليها ضعيف جدًا. فالرياضة ليست بالأمر الأساسي، وليست بالأولوية في عقلية وذهن المرأة العربية. وحتى في المدارس، لا تؤخذ مادة اللياقة البدنية في مدارس الإناث خصوصًا على محمل الجد، لا من المعلمات، ولا من الطالبات، ولا من المجتمع المحلي.

البدانة ومشاكل زيادة الوزن عند النساء في العالم العربي ترتبط قبل كل شيء ارتباطًا وثيقًا بنظرة المرأة إلى نفسها، وحجم تقديرها لذاتها، وحرصها على العيش بنظام صحي يضمن لها أن تكون صحتها الجسدية والنفسية بأفضل حال. وهي ترتبط أيضًا بحجم ثقافتها وجودة التعليم الذي تلتقه. ثم ترتبط بمحيطها الضيق (الأسرة)، ومجتمعها الأوسع، وما يفرضه عليها من معتقدات وأفكار تتعلق بصحتها وأولوياتها وواجباتها. وهي كذلك مرتبطة بجهود الدول الحقيقية لتوفير نظام حياة صحي لشعوبها؛ بدءًا من تفعيل حصة الرياضة واللياقة البدنية، ونشر التوعية بأهميتها في المدارس، وانتهاء بتوفير المساحات والحدائق الآمنة، وفرض رقابة حقيقية على جودة ما يُقدم للأفراد في الأسواق والمطاعم، وانسجامه مع خطط مكافحة تلك الآفة.