25-يوليو-2022
ميّ بنت محمد آل خليفة

هل بات التعبير عن مشاعرنا تهمة؟ وهل أصبح التضامن الإنساني حالة غير مرغوب بها؟ وهل صار لزامًا علينا كأفراد ومواطنين عربًا أن نصيغ عواطفنا وأحاسيسنا ومشاعرنا وفق ما تريده الأنظمة الحاكمة في الدول العربية؟ أليس مسموحًا لنا أن نعبر عن أوجاعنا وأن نصرخ وأن نقول كلمة أخ للتعبير عن آلامنا؟

نحن شعب عربي لكن البعض ينظر إلينا وفق معيار انتمائنا لدولة أو جنسية عربية فقط لا غير! وكأن المسألة يمكن أن تكون بهذه البساطة وبهذه الاختزالية. دعاة هذه النظرة لا يعيرون أي اهتمام للشعور العربي العام، للانتماء العربي، للحس العربي، للقومية العربية، للعروبة.

ما الذي يمكن أن يدفع بسيدة نبيلة تقلدت مناصب وزارية رفيعة في البحرين من أن تجاهر بموقفها من القضية الفلسطينية وأن تعبر عن عدم رغبتها بالتطبيع مع إسرائيل! إن لم تكن العاطفة للغة أم العاطفة للجذور

دعاة هذه النظرة الاختزالية يتعاملون مع الإنسان العربي وكأنه كائن منفصل عن التاريخ والجغرافيا والدين واللغة والثقافة والسياسة والاقتصاد وكل ميادين الحياة. ومن ثم يطرحون نظرية الحدود الجغرافية السياسية لدولهم ويحددون هوية الإنسان العربي وفق هذه الحدود. الخلاصة: أنت لبناني وأنت سعودي وأنت فلسطيني وأنت مصري إلخ.. بالنسبة لهؤلاء لا وجود لأي مشاعر إنسانية خارج الحدود الكيانية لهذه الدول. تاريخ طويل عريض يتم محوه بشحطة قلم. لا بأس بذلك، لكن أتركوا لنا مجالًا للتعبير بحرية عن مشاعرنا.

فالتضامن العربي ليس حالة وهمية. إنه حالة واقعية وموجودة ويمكن لمسها في كل يوم وفي كل مدينة عربية. الشعوب العربية تضامنت مع اغتيال الصحفية شيرين بوعاقلة، الشعوب العربية شجعت فريق كرة القدم الجزائري في كأس العالم 2014، واللاعب المصري محمد صلاح محبوب من مشجعي كرة القدم العرب، والشعوب العربية من المحيط إلى الخليج سخطت على إسرائيل حين ارتكبت مجزرة قانا عام 1996 في جنوب لبنان، وفرح العرب حين خرجت القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان، والشعب العربي ردد أغنية الحلم العربي، وبعضهم بكى لكأن حلمًا من أحلامه يموت. بإمكاننا متابعة التعداد ولن نتوقف عن إيجاد المواقف التي برز خلالها الحس العربي والتضامن العربي بين الشعوب العربية على قضايا متنوعة ومختلفة.

وحده الواهم من يظن أن بمقدوره الفصل بين الشعوب العربية بناء على جنسياتهم وانتمائهم لدولهم. الانتماء لدولة عربية لا يعني بالضرورة التنكر للقومية العربية، ولا يعني أننا لا نحب دولنا وبأننا نكره حكوماتنا. لكن لنا الحق في الرفض، خصوصًا حين تتناقض التوجهات الحكومية مع مبادئنا ومشاعرنا.

ومن هنا، فإن ما فعلته الوزيرة السابقة والرئيسة السابقة لهيئة البحرين للثقافة والآثار السيدة ميّ بنت محمد آل خليفة لا يخرج عن هذا الإطار. ما الذي يمكن أن يدفع بسيدة نبيلة تقلدت مناصب وزارية رفيعة في البحرين من أن تجاهر بموقفها من القضية الفلسطينية وأن تعبر عن عدم رغبتها بالتطبيع مع إسرائيل! إن لم تكن العاطفة للغة أم العاطفة للجذور الإسلامية الواحدة أم العاطفة للذاكرة العربية المشتركة أم العاطفة والحسرة على الانكسارات العربية أم العاطفة الإنسانية الخالصة لنصرة المظلومين في العالم، إن لم تكن هذه هي الدوافع، فماذا عساها تكون غير ذلك؟!

ولذلك نقول: الشعوب العربية في وادٍ والأنظمة والحكومات العربية في واد آخر. السيدة مي آل خليفة خير معبر عن المسألة، سيما وأنها تتحدر من الطبقة الحاكمة ومن العائلة الحاكمة ولذلك فإن موقفها ومن خلال موقعها يجب أن يضعنا أمام أسئلة كثيرة.

هذه السيدة المحبة للثقافة والفنون، الكاتبة والمؤرخة، زهدت بما في يديها من سلطة ومناصب من أجل موقفها ومن أجل مبادئها. ولا يمكن أن يخرج سلوكها عن إحساسها بعروبتها وبانتماءها لهذه البلاد وأهلها وناسها وقضاياهم وشجونهم وهمومهم. فهل بات التعبير عن مشاعرنا القومية العربية جريمة؟  

طبعًا القومية فعل سياسي أيضًا. نحن لا نطالب بأن يتبوتق العرب في وحدة سياسية واحدة ونقية ويؤسسوا خلافة موسعة. على العكس من ذلك، نحن نحترم شعوب وحكومات المنطقة وإراداتها في تأليف الكيانات السياسية التي تريد والتي هي عليه الحال الأن. ونحن نحترم الدول العربية ولا نريد التدخل في شؤونها الداخلية.

وأنا لبناني وأجاهر بالدفاع عن بلدي ولا أحبذ التدخلات الخارجية. لكن فلسطين على مرمى حجر مني، والفلسطينييون يعيشون بيننا، والقضايا المصيرية مرتبطة بفلسطين، ورابطة "الدم والأرض" موجودة وفاعلة بقوة، فهل من المنطق القفز فوق هذه العناصر والتنكر لها وكأنها غير موجودة! إن أي مقاربة للبنانيتي لا يمكن أن تنجح إذا لم تتم عملية دراسة هذه العوامل الموضوعية.

ربما اليوم فلسطين بحاجة إلينا، وربما غدًا سنكون بحاجة لمن ينصرنا من ظالم وظلم آت. التاريخ يعلمنا أنه حركة صعود ونزول. القوي اليوم، ضعيف في الغد. ربما سنكون في يوم من الأيام بحاجة للفلسطينيين أو السوريين أو العراقيين أو اليمنيين وغيرهم من شعوب الدول العربية الثكلى، التي دمرت بلادهم وشرد مئات آلاف المواطنين من ديارهم.

سنكون في يوم من الأيام بحاجة للفلسطينيين أو السوريين أو العراقيين أو اليمنيين وغيرهم من شعوب الدول العربية الثكلى، التي دمرت بلادهم وشرد مئات آلاف المواطنين من ديارهم

أنا عربي، لغتي عربية، جذوري تضرب في الأرض. أفرح حين أقابل شخصًا عربيًا لسبب لا أدري ماهيته، هناك إحساس ما يسري في دمي وعروقي، وهيهات أن أتنكر لإحساسي. هذا الإحساس ليس وهمًا. إنه شعور يشبه الحب. فما الجريمة التي ارتكبتها السيدة مي آل خليفة لتقال من منصبها؟ هل هي جريمة الشعور والإحساس بأنها مواطنة عربية! كيف يمكن لأحد معاقبة المشاعر. إنها تهمة تشبه منع الشعر ومعاقبة الشعراء.

لا أدعي الطهارة أو النقاء الثوري. كلنا يعلم حجم قدراتنا. وجميعنا نعرف حجم الابتزاز والاستغلال الذي خضعت له القضية الفلسطينية ولا زالت من قبل قوى تدعي العروبة أو الإسلام، سيما في لبنان. لكن الأخطاء لا تبرر التنكر للقضية الفلسطينية والفلسطينيين، فإن كان هناك من يود التطبيع فليذهب، لكن اتركوا لنا مجالًا لنرفض، لنكره، لنعبر عن موقفنا. لا تلزمونا بموقف حكوماتكم.

وإن كان هناك من يرفض الحرب (وأنا منهم)، لكن رفض الحرب لا يعني بتاتًا الذهاب إلى سلام غير مشرف مع الإسرائيليين. إلى سلام لا تريده إسرائيل أصلًا. وإن كان هناك من سبب لرفض التطبيع، فإنما يكمن في كون أي حل يجب أن يرضي الفلسطينيين أولًا، أصحاب القضية، وبعدها لكل حادث حديث.

من هنا، دعوتي الأنظمة العربية للتبصر في مشاعر مواطنيها. لو قدر للأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج أن تجري استفتاء شعبيًا حول التطبيع مع إسرائيل فإنها ستكتشف، وهي أنظمة تعرف ذلك جيدًا، أن الشعب العربي رافض للتطبيع. ها هو النموذج المصري أمامنا كعبرة ونموذج. ما تريده الحكومات شيء، وما تشعر به الشعوب العربية شيء أخر. والسيدة مي آل خليفة عبرت عن مشاعر شرائح واسعة من الشعوب العربية فقط لا غير. ولذلك، نتضامن مع السيدة مي آل خليفة نرفع لها القبعة لموقفها من موقعها ولتصالحها مع نفسها ومبادئها ووضوحها.