20-أكتوبر-2015

الحراك طويل الأمد (رتيب الصفدي/الأناضول/Getty)

ينجز حراك الشارع اللبنانيّ حتى تاريخ كتابة هذا النص مستوياتٍ من الوعي قد لا تبدو كلّها ظاهرة على سطوح الخطاب. إنها مستوياتٌ سوف تكون، في المقبل من الأعوام، محطّة لا يمكن إغفالها في سياق الاجتماع اللبنانيّ، ولو تعثر الحراك نسبيًا أو خفت بوجهه الميدانيّ المباشر. محطّة سوف تكون لربما أيضًا، موضوع دراسات لناحية سبر الدوافع المتعدّدة المتراكبة التي أخرجت إلى المشهدية العلنية اللبنانية هذا الاجتماع الفارق.

قيل الكثير من النقد والنقد المقابل في مسائل تتعلق بالسياقات أو الخطوات المطلبية المباشرة التي ساقتها مجموعات الحراك المدنيّ. وهو في كلّ الأحوال نقد لازم ومطلوب إلّا أن يكون نقدًا غير متّكئ، بدئيًّا على التسليم ببداهة الحق المطلق بالتجمع الميداني والاعتراض بشتى الوسائل اللازمة ضد السلطة الطوائفية المخاتلة إذ تفتقر هذه السلطة إلى أشكال يمكن عدها أوّلية من المشروعية. ونقول أن الاعتراض تصاعديّ بمعنى أحقية الصدام وممارسة "العنف" المدنيّ المتصاعد اطرادًا بوجه السلطة طالما أن هذه السلطة تظل تبدي، في كافة سلوكياتها، إشارات لا تؤشر لإمكان فتح أي ثغرة في جدار الحلّ حتى في مسألة (النفايات) التي هي سببٌ مباشر في اللجوء إلى الشارع.

ما تقدم ذكره، يتصل عمومًا، بالشكل الخارجيَ الذي طبع الحراك. في العمق، ثمّة مستوياتٌ مساوقة للحراك شكلته وتشكلت به. مستويات ربّما تكون هي الدافعَ الأكبر للسلطة لدفع الأمور المربكة إلى حدّ السعي إلى عدم التساهل مطلقًا حتّى في تلبية مطالب بديهية من مطالب الحراك.

اقرأ/ي أيضًا:  الأمن اللبناني يكشّر عن أنيابه.. بلطجية وسحل!

من هذه المستويات، هو طبيعة الخطاب الشبابيّ الذي يعكس قطيعة مع أنماط تلفيقيّة نعرفها في الرؤية والتعامل مع السلطة الطائفية من باب المعارضة الضمنية أو العلنية. خطاب لا يبدو أنه مكترث لدائرة المعاجم اللبنانيّة التقليدية في مخاتلة الطوائف أو أجزاء منها. إنه، في العمق، الخطاب الذي ليس مهجوسًا سوى بإنشاء كلاميته الذاتية. كلاميّة سِمتها الأساسية أنها تحيل بشكل مباشر إلى مستويات من السعي الضمنيّ لزحزحة شروط اجتماعية نمطية خانقة قامت عليها تواطؤات السلطة. شروط لطالما كبلت شرائح أهلية بقدسياتٍ اعتباطية تقيم في اللاوعي الجمعيّ وتدفع المواطن، بالتهويل، للاستنكاف عن الاندماج بخطاب حقوقيّ يفترض أنه بديهي وجوهري في آن.

الخطاب يتحرك بوتيرة حيوية تأطيرًا وتنظيمًا وبأدوات تقنية عملانيّة بالغة الفعالية

الخطاب المتحرّك بوتيرة حيوية تأطيرًا وتنظيمًا وبأدوات تقنية عملانيّة بالغة الفعالية (من أهمها فيسبوك) ليس بحال من الأحوال قشرة من قشور الفورات التقليدية التي تصيب تعبيرات الرفض الأهلي المرحلية حين تنغلق بوجهها بعض بنيات المجتمع التحتية (سبل العيش أوالسياسة). بل إنّه خطاب، حتى في أشكاله التي تبدو "هزلية" أو"بذيئة" أو متسرعة و في حواراته وألفاظه أو في تلك الكلاميات النابتة البالغة الدلالة التي لا تضع البلاغة النخبوية من ضمن هواجسها الهوياتية، فإنه يبقى خطابَ الفئة (الشبابية)، على قلتها العددية نسبيًا، التي لن تسعى ربما، بحال من الأحوال مستقبلًا، إلى الخروج على ترسيمات هذا الخطاب من حيث أنه قد يؤسس، لاحقًا لبنية تفترق في العمق عن كل ترسيمات الطوائف وميليشياتها المحنطة.

إنه خطاب حاضر وحيٌّ وفعال بمحايثته البيتيّة والشوارعية الجميلة والقابل لشتى أنواع التزخيم. زد على ذلك أنه خطاب آمن، غير منفصم، بمعنى قدرته على التفلت، بقدرٍ، من إواليات الخطابات الأبويّة/ البطريركية التي وسمت غالب التحركات الأهلية الطائفية السابقة. تلك الإواليات التي تجتر مرارًا وتكرارًا، بشكل من الأشكال، كل التقسيمات الاعتباطية المعروفة (قائد/ تابع، تقريظات حقوق المرأة، مندس/ واع، نخبة/ عامة..مقدس/مدنس) التي تصب غالبًا في مربع تقطيع الخطاب إلى خطابات هي أشبه بدهاليز مآلها الانغلاق، ومُدارةٌ، بالنتيجة من قبل السلطة.

الخطاب الناشئ الفاضح والمتداول وعلى تفلتاته يستطيع تشكيل هامش يسوّر الوعي

نعوّل كثيرًا، إذن، بالنفس الطويل، في المدى المتوسط والبعيد، على قدرة الخطاب الناشئ الفاضح والمتداول وعلى تفلتاته، لناحية تشكيل هامش يسوّر هذا "الوعي" الذي يستبطنه الخطاب. ولا نستخدم مصطلح "الوعي"، على بداهته النمطية في وظيفة التعريف والتوعية، وهذا من نافل الأمر طبعًا، إنما نعني قدرة الخطاب، بأدواته، وهو الأهم والأشقّ، على الاشتغال في المساحة اللامرئية التي تؤسَّس فيها، أصلًا، مجمل الاستلابات والإكراهات والتقسيمات التي أصابت وتصيب عدة شرائح وازنة من المجتمع اللبناني. إنها القدرة، بالمثابرة الحقوقية والمطلبية البسيطة والعميقة في آن، على تسهيل فعل "الخروج" و على إنشاء الاستعدادات المبنْينة (من البنية) نفسيًا للقول والانتماء الفعلي والإقامة في قلب هذا الخطاب.

اقرأ/ي أيضًا:
لا تسرع فـ"القضاء العسكري" أسرع!
إعلام لبنان الإسخريوطي