11-ديسمبر-2023
مشهد من غزة

لا ينشأ الاعتياد لدى البشر إلا بعد موت شيء ما داخلهم (Getty)

في حوارٍ لي مع أحد الأصدقاء قبل بضعة أيام، وجّهتُ لنفسي أمامه عتابًا ونقدًا لاذعًا لكوني دخلتُ مع آخرين كُثر في شبهة الاعتياد على مشهد المقتلة الدائرة في غزة منذ أكثر من شهرين.

أخبرتُ ذلك الصديق بأنّ نوبات البكاء الهستيري التي كنتُ أدخل فيها بشكل يومي في الأسابيع الأولى من الحرب الإسرائيلية على غزة قد تضاءلت وتناقصت مع الأيام، وأنّ عدم بكائي اليوم أمام هذه المشاهد التي ينفطر فيها قلبي حزنًا وكمدًا، هو أكبر دليل على أنّ شيئًا ما في نفسي قد اعتاد المشهد. وأضفتُ له في صيغة سؤال استنكاري: يا تُرى، ما الذي مات فيّ حتى اعتدتُ المشهد؟!

أيّ حساسيات ماتت في العالَم حتى اعتاد مقتلة غزة؟

كنتُ ألقي على مسامع صديقي هذا السؤال، وأستحضر عبارات أوردها ممدوح عدوان في كتابه "حيونة الإنسان" حول العادة والتعوّد وكيفية تشكّلهما لدى الأفراد والجماعات. يقول: "نتعود؟ تعرف ماذا تعلمنا يا أبي؟ ذات يوم شرحوا لنا في المدرسة شيئًا عن التعود. حينَ نشمّ رائحة تضايقنا فإن جملتنا العصبية كلها تتنبه وتعبر عن ضيقها، بعد حين من البقاء مع الرائحة يخف الضيق. أتعرف معنى ذلك؟ معناه أن هناك شعيرات حساسة في مجرى الشم قد ماتت فلم تعد تتحسس. ومن ثم لم تعد تنبه الجملة العصبية. والأمر ذاته مع السمع، حين تمر في سوق النحاسين فإن الضجة تثير أعصابك. لو أقمت هناك لتعودت مثلما يتعود المقيمون والنحاسون أنفسهم. السبب نفسه: الشعيرات الحساسة والأعصاب الحساسة في الأذن قد ماتت. فنحن لا نتعود يا أبي الا إذا مات فينا شيء".

يحقّ لي بعد استحضاري لكلمات عدوان، أن أذهب في تفكيري بعيدًا عن أُطري الشخصية وأسأل: يا تُرى، ما الذي ماتَ في العالَم حتى اعتاد مشهَد المقتلة في غزة؟

يُؤكّد عدوان في عباراته السابقة أنّ البشر لا يعتادون الروائح والأصوات القبيحة إلا بعد أن تموت فيهم شعيرات وأعصاب حساسة مختصة بجعلهم يشعرون بالضيق من تلكَ الأصوات والروائح. أي أنّ حالة التعوّد على عناصر ومشاهد القُبح لا تنشأ لدى البشر إلا بعد أن تموت فيهم حساسيات معينة.

فيا ترى، أيّ حساسيات ماتت في العالَم حتى اعتاد مقتلة غزة؟ أهيَ حساسية العين ضدّ مشاهد القتل والإبادة؟ أم حساسية الأذن ضدّ أصوات القنابل والانفجارات؟ أم حساسية الأنف ضدّ رائحة الموت؟ أم حساسية اللسان ضدّ طعم القهر والمرارة والجوع؟ أم حساسية الجلد ضدّ قشعريرة اعتراضية تُثبتُ له إذا ما سرت على مساماته أنّه ما زالَ ينتمي للإنسان؟

أورَد المفكّر العربي عزمي بشارة في محاضرته الأخيرة بعنوان:" الحرب على غزة: السياسة والأخلاق والقانون الدولي" بأنّ العديد من المثقفين والفلاسفة الذين يُفترض بهم أن يكونوا سندًا أخلاقيًا لحساسيات البشر تجاه مشاهد القتل والظلم والإبادة، وأن يعينوهم على إيقاظ هذه الحساسيات وجعلها تستفيق فتعترض وتشمئز وتستنكر؛ قد تمترسوا على الضدّ من ذلك تمامًا، فأصبحوا سندًا أخلاقيًا للنقيض، حيث تاهوا في معمعة المصطلحات التي جعلوها أساسًا لتحديد مواقفهم من المقتلة. فيورغن هابرماس – بحسب بشارة – اعترض على استخدام مصطلح "الإبادة الجماعية" لوصف المقتلة المستمرّة في غزة، فكتبَ ونظّر كثيرًا حول ذلك، وكأنّ حساسيته تجاه مشاهد القتل والتجويع والتشريد في غزة هيَ حساسية تُولد وتتحدّد فقط في حالة ارتقائها إلى مُسمى الإبادة الحاصلة فِعلًا وحقًا!

ينتمي هابرماس إلى فئة المثقفين ممن يُفترض بهم أن يكونوا من أكثر الناس حساسية ضدّ مشاهد القتل والإبادة للبشر عمومًا، وقد أمات حساسيته عَمدًا خدمةً لرؤاه القاصرة والمنحازة. ويبدو أنّ العالَم جميعه من حوله – بشخوصه وجماعاته ومؤسساته – قد تبعه وسار على نهجه، فأمات حساسيته عمدًا، وجلسَ مطمئنًا أمام مشاهِد استمرار المقتلة.