02-سبتمبر-2022
الفنان وليد صادق

الفنان وليد صادق

ينبهنا الفيسبوك إلى لوحات جديدة للفنان اللبناني وليد صادق يعرضها في غاليري صالح بركات في بيروت. نحن المقيمين خارج لبنان، لا يتاح لنا معاينتها إلا عبر ما تيسر من صور شاركها من حضر المعرض. تبدو هذه اللوحات كأنها محضر إقفال وختم بالشمع الأحمر. نوع من إقفال لإمكانية المتابعة أو المواصلة، وهذا بخلاف أعماله السابقة التي كانت تحاول تباعًا بناء صلات واستشراف إمكانية النهوض وإكمال المسير. فوليد قسّم الزمن في أعماله تبعًا للأحداث في لبنان، فله زمن الحرب وزمن ما بعد الحرب، والآن يقول هناك زمن ما بعد تلك الأزمنة.

برهة ما بعد الحرب التي صنعت الأمل دفعت بوليد صادق للبحث عن صورنا في حضرة الموت الممتد من فترة الحرب والمقيم بين اللبنانيين في فترة "السلم"

في زمن ما بعد الحرب حاول وليد إخراج الصورة من كنف التأويل المنطلق من أنساق العولمة الغربية، متسلحًا باللغة، في بناء مفاهيمي حاول فيه إدراج سياق يبني من خلاله، للصورة اللبنانية، خطابًا محليًا يصنعه الناجون، أولئك الذين كانوا ما زالوا يجلسون في الصورة والمكان، مطوقًا بذلك الأستتيك والأورا الفنية وشعاع الاستهلاك الميديائي وصناعة النوستالجيا وقدرات هذه كلها على تطويع التأويل في تهافت وهشاشة ترافق عمليات "تذكر" و"نسيان" مبتذلة تعززها السياسيات التي أوقفت الحرب دون أن تنهيها.

برهة ما بعد الحرب التي صنعت الأمل دفعت بوليد للبحث عن صورنا في حضرة الموت الممتد من فترة الحرب والمقيم بين اللبنانيين في فترة "السلم". عمل على إيجاد صيغة ليحسن اللبنانيون إقامتهم في الخراب، فيقضون وقتًا أطول في الإقامة مع جثث موتاهم ليستنفدوا الوقت الكافي من الحداد ويخرجوا بعدها إلى البوح ومنه إلى التصالح مع الموت ومن ثم الاستئناف. وهو بهذا عمل على إعادة تعريف الخراب اللبناني على أنه "أرشيف". ولكنه حاول إخراج هذا الأرشيف من براثن السلطات التي تسيطر عليه وعلى الخطاب المنطلق منه، أي سرديات الحرب والسرديات التي تطورت واحتلت زمن ما بعد الحرب.

وليد صادق ١

وبهذا أعاد وليد تعريف الأرشيف باعتباره مساحة أنقاض لا يملك قراءته والإبحار فيه إلا الناجون الخاسرون أولئك الذين أقروا في خلدهم وفي تطلعهم إلى الحياة أنهم خاسرون، وأن الحياة بالنسبة لهم، لم تعد ممكنه دون اعتبار الخسارة جزءًا من مستقبلهم. وبهذا كان اتجاه وليد هو تعريف الناجي من خارج مفاهيم التحليل النفسي أي من خارج منطلق "التروما" ومفاعيلها. فالناجي الشاهد هنا هو كائن يعيش في الخراب بوصفه بنية تاريخية وزمنية، ولكنه على عطبه، يحمل إمكانية الحياة والانتقال إلى المستقبل. فبهذه القناعة وحدها كان وليد ينظر إلى الخراب باعتباره أرشيفا، وليس مخزنا لآثار يمكن إعادة ترميمها أو تكوينها، كما أنه ليس مصنع أنصاب كذلك. لقد رأى أن الخراب هذا هو مكان زمني، مكان "عمل" مضن يتنكبه الناجون الشهود، المقتنعون بأن هذا الخراب هو عطب بنيوي في جذر البناء المهدم المتناثر. وبهذا العمل المضني وحده يمكنهم إعادة البناء بالاستثمار في شظايا هذا الجذر المكسور.  

وليد صادق٢

وبهذا تبدو لوحات وليد الجديدة هذه، كأنها خلاصة الخلاصات. تبدو كشظايا مكان، ركام متناثر أمام أعيننا. ففي تلوين الخشب والقماش والمعدن المستعمل تبدو هذه الشظايا كأنها فتات هذا الجذر المكسور، وتشكيلها لا يدعي إحالات أو يطلق إشارات إلى إمكانية إعادة جمعها في جسم متكامل، أو حتى "العمل" بها ومن خلالها. تبدو كأنها إعلان موقف في خلاصة لا تتسع للبراغماتية ولا تتيح التدرج بها لتفضي إلى تراكم ما. تبدو هذه الشظايا كأنها تقيم في مساحة اللارجعة واللاإمكانية. وهي بهذا تظهر كأنها عمل فني لا يدعي المحافظة على نفسه أي على إقامته في مدى تفاعلي، وبإنشاء علاقة ما معه في كليته. وبهذا فهو ينحو ليكون عملًا يخالف شروط فن الرسم، لناحية حفظه لإتاحة هذه العلاقة المستقبلية معه، أي إتاحته للتواجد والمعاينة خارج حقول النسيان، أي افتراض أن يتاح له إمكانية الخلاص، تلك الإمكانية التي يتوقعها العمل من عملية التذكر ومن المكان. وبهذا فإن هذه اللوحات هي إشارة إلى انتفاء المكان، أو بمعنى آخر إلى تعطيل "العمل" نفسه، لسبل تحويله إلى إشارات أو إلى أرشيف، إلى "طلل" وتوقع زيارته في المستقبل.

وهي بهذا فهو عمل فني يبدو انه يتلافى المثالثة في أنواع عرض كهذه، فاللوحات لا تبدو أنها تريد الانضباط في علاقات بين المُرسل، المرسَل إليه، المرجع، أي العمل بحد ذاته. إذ إن الرسالة من هذه اللوحات هي حامل الرسالة نفسه، إعلان توقفه عن البناء وتنظيم المكان والزمان الذي كان فيه. ولكنه توقف مازال يفتقد للاستدارة أو الالتفات. فكائن وليد، "الشاهد الناجي" غير متواجد مع لوحاته هذه وليس هناك لغة تساعد هذا التناثر ان يتماسك في رؤيا. تبدو اللوحات كانها تقول شيئًا مرة واحدة وتنصرف عن النظر. فعدم إعطائها اسمًا أو دلالة يجعلها تبدو كقطع تذكارية، كأحجار الأسوار الآفلة التي نضعها في صدور منازلنا لادعاء نسب بالمكان أو حبًّا له ولكنه إعلان عن موت المكان نهائيًا. وبهذا تبدو هذه اللوحات كنقطة متوترة في توقفها، نقطة تشرف على مساحة إجهاض كبيرة مكثفة بالألوان والمواد، إشارة طوبوغرافية في عقار بور ممسوح ومفروز في خريطة العالم يجثم في حالة انتظار.