25-نوفمبر-2015

في باريس 2012 (Getty)

كتب الروائي الألباني إسماعيل كاداريه، روايته "من أعاد دورونتين؟" عام 1979، وترجمت إلى العربية عام 1989، متن صغير الحجم، لكنه من ذلك النوع الذي يدججك بالألغاز منذ اللحظة الأولى، فيصعب عليك ترك القراءة. لازلت أؤمن بأن ما ينقذ الرواية، هو صفحاتُها العشرُ الأولى.

هناك نضج معين يشترط للزواج، وآخر يشترط للتعليم، فما النضج الذي يشترط للانخراط في كتابة رواية؟

لستُ هنا بصدد تلخيص الرواية. هل يؤمن عاقل بإمكانية ذلك؟ هل يسافر معك من تلخص له رحلتك؟ كانت الرواية الأولى في قائمة الكتب التي حملتها معي في رحلتي إلى الغرب الجزائري، وبذلك باشرت سفرين معًا، سفر في الأرض، أمّنته لي سيارة أجرة مدججة بالصمت، وسفر في السماء، أمّنه لي الأستاذ كاداريه. هناك نضج معين يشترط للزواج، ونضج يشترط للسياقة، وآخر يشترط للتعليم مثلًا، فما النضج الذي يشترط للانخراط في كتابة رواية؟

كان السائق الذي لم يجد صعوبة في اصطياد مسافرين من الجزائر العاصمة إلى مدينة وهران، يقمع رغبة سيارته القديمة في أن تبدو جديرة بالطريق السريع، هل هناك طريق سريع في الجزائر بعد نصف قرن من الاستقلال؟ ويقمع كل حديث بين الركاب، قال إنه يفقد تركيزه حين ينشب حديث بيننا، أو يعلو صوت الموسيقى. ما كان أشبه تلك السيارة بواقع الحال: القدامة تأبى الانسحاب من الطريق، وتمارس سلطتها في إطفاء الأصوات.

أقرّ لبعض الكتب بالفضل، تمامًا كما للبشر، أليس الكتاب كائنًا حيًّا؟ لماذا لا نكتب عن المتون ذات الأفضال علينا؟ نعرف حكم أن نجحد فضل الإنسان، فماذا عن جحود فضل الكتاب؟ أنقذتني رواية دورونتين، من صمت مفروض علي، وعلمتني أن أنتقم منه بالقراءة.

كنت أقرأ شطرًا، وأطلق العنان لمخيلتي خارج السيارة شطرًا، هل هناك فرق بين ثمار القراءة وثمار التأمل؟ شوّش علي جمال الطريق، فلم أستطع أن أذهب بخيالاتي إلى أقصاها، هناك عشت تجربة عرفت فيها كيف تشوش سلطة الجمال على سلطة الخيال، فلم أدْرِ هل أذهب إلى ألبانيا، حيث طريق تقطعه دورونتين، من بيت زوجها النائي في بوهيميا، رفقة أخيها قسطنطين الذي أقسم لأمها بأن يعيدها إليها متى اشتاقتها، يُسمى هذا القسم في ألبانيا "الإسّا"، أم أبقى في الجزائر وأتابع ملامح طريق وهران؟ ما زادني إلا ارتباكًا، تذكرُ أغنية أحمد وهبي "وهرن.. وهرن رحتي خسارة، هجروا منك ناس شطارة"، لماذا بات المكان الجزائري مرتبطًا بالهجرة منه؟ لماذا لم تكن ألبانيا في أجندة اللاجئين السوريين إلى أوروبا؟ هل ستتخلص أوروبا من لقب "القارة العجوز"، بعد هذه الأمواج الشبابية الوافدة؟ أمة تشبّب حياتها بفتح الأبواب للآخرين، وأخرى لشيوخها سلطة الغلق على شبانهم. "افتح النافذة يا شيخ"/ قلت للسائق العجوز.

وصلت دورونتين إلى بيت العائلة ليلًا، بعد غياب دام ثلاث سنوات، لم تسمع فيها بموت إخوتها التسعة في مواجهة جيش أصابه الطاعون، ولا برحيل زوجاتهم مع أولادهن، تاركاتٍ أمها وحيدة، في بيتٍ مغلق على الذكريات. أنا دورونتين يا أمي.. افتحي الباب/ دورونتين؟ من أعادك؟/ جئت مع أخي قسطنطين/ لكن أخاك يرقد تحت الثرى منذ ثلاث سنوات. البنت تصاب بصدمة أن الذي جاءت معه، كان شبح أخيها الميت، والأم تصاب بصدمة أن ابنها خرج من قبره، وأنجز وعده بإعادة ابنتها الوحيدة.

لم تنتبه شعوب الربيع العربي إلى الهوة بين الواقع والخيال، فوقعت في ما هربت منه

كان لا بد أن أصل سريعًا إلى تلك المقاطعة الألبانية، وأقتحم بيت المرأتين المصدومتين، واللتين دخلتا في نوبة من الغيبوبة والهذيان، لأعرف الحقيقة، حقيقة ماذا؟ لم أنتبه، فطلبت من السائق أن يسرع، قال إنه يقوم بواجبه، ولا داعي لتذكيره بذلك، كدت أن أقول له: وكيف سأصل إلى ألبانيا بهذه السرعة النملة؟

حملني التذمر على أن أطوّر السيارة العجوز في خيالي، فباتت تطير كما أشتهي، في هذه الحالة سيكون وصولي إلى المرأتين ضوئيًا. لم تنتبه شعوب الربيع العربي، إلى الهوة بين الواقع والخيال، فوقعت في ما هربت منه، وحين انتبهت، وجدت أن أرذل من فيها، باتوا مسيطرين على المكان والإنسان، الدواعش، بحماية ممن أججوا أشواقها إلى الديمقراطية، ترى هل ستصمد دورونتين حتى وصولي؟

اقتحمت الباب الخارجي للحوش، ونسيت أن أسلّم على المحقق ومعاونه، وبعض النسوة اللواتي يبدو أنهن جئن لتغذية الفضول، لماذا يقل الامتناع عن حضور الأعراس والجنائز عند النساء؟ الأولى أن أسأل عن اللغة التي سأتواصل بها مع دورونتين، وأنا أواجه فمها المغلوق على الأسئلة، وعينيها المفتوحتين على اخضرار عجيب. انحنيت عليها لأسألها: من أنا؟ أقصد من أعادك؟ فأسلمتْ روحها للسماء، أغمضتُ عينيها، وعدت إلى وهران.

في السابق، كنت أستهجن أن يقبض السائق الجزائري قبل الوصول، من ثمار عشرية الإرهاب، فقدان الثقة بين الناس، أما اليوم، فقد استحسنت الأمر، لأنه مكنني من المغادرة فورًا. كنت بحاجة إلى البكاء على دورونتين، وليس أخطر على الإنسان من دمعة مؤجلة، نسيت أن أختصر المسافة إلى الفندق، بسيارة أجرة، هل كرهي للسائق العجوز هو من أنساني ذلك؟ لماذا استعملت فعل الكره، لم أكن مبرمجًا على الكراهية لحظتها، أم أنها الثقة في خطواتي.

اقرأ/ي أيضًا:

تزفيتان تودوروف.. صرخة مفكر في وجه تطرف الغرب

صورة ضائعة مع وديع سعادة