29-فبراير-2024
رمضان في مصر

(الترا صوت) من الأعمال الرمضانية المصرية

في مسلسل مصري أنتج أواسط الثمانينات وعنوانه "المحروسة 85"، يشكو البطل، وهو كاتب وصحفي كبير اسمه نعمان سلامة نعمان (جسده محمود مرسي)، من أداء القائمين على القنوات التلفزيونية قبيل كل رمضان.

وملخص شكواه أنه رغم معرفتهم الأكيدة بموعد رمضان القادم منذ نهاية رمضان الفائت، إلا أنهم يبدون كل عام وكأنهم فوجئوا بقدومه، فتعم "اللهوجة" ويسود الارتجال، إذ يسارعون إلى سلق برامج على عجل، واستنساخ أفكار قديمة، والغزل على المنوال نفسه بلا تجديد: "فبرنامج ضيف على الفطار السنة الماضية يصبح هذه السنة ضيف على السحور.. وهكذا".

 ومع ذلك يقبل الكاتب الكبير الاشتراك في واحد من هذه البرامج، ويحل ضيفًا على السحور لدى أسرة في قرية المحروسة، وهذا ما سيغدو محور المسلسل ومادته، إذ تكون البداية مع أول رمضان وتحين النهاية مع اقتراب العيد.

وربما لهذا غدا المسلسل ضيفًا رمضانيًا متكررًا في القنوات التلفزيونية الأرضية، ومن ثم في الفضائيات، قبل أن يتاح على الـ"يوتيوب", فيتكفل كثير من المشاهدين باستعادته كلما حل شهر الصوم أو اقترب موعد العيد.

أنشأ المصريون  الدراما التلفزيونية العربية، وجعلوها فنًا راقيًا يقف إلى جانب المسرح والسينما في صف واحد. ومع الدراما أتقنوا صناعة برامج المنوعات بكل أشكالها

والمفارقة أن حضور هذا العمل يأتي مترافقًا مع كثير من البرامج التي أراد السخرية منها، والتي صارت هي بدورها أيقونات خالدة، ومواد أساسية للنوستالجيا الرمضانية.

ولعل سخرية البطل من هذه البرامج تعكس موقف كاتب العمل نفسه، سعد الدين وهبه، والذي ربما كان يتبنى النظرة التقليدية للأدباء والكتاب المسرحيين إزاء التلفزيون (رغم انخراطهم هم أنفسهم في صناعة برامج وأعمال تلفزيونية) نظرة تنطوي على اتهامه بالخفة والتبسيط والسرعة الزائدة "اللهوجة"، وتحاكمه وفق معايير مستوردة من حقول فنية أخرى (أدب، مسرح، سينما..)، بعيدًا عن سياق الشاشة الصغيرة وشروطها وظروف عملها.

ولذا فقد غفل الكاتب وبطله (الكاتب أيضًا) عن أن هذه البرامج "المسلوقة و"المنسوخة" إنما كانت في الواقع تصنع طقسًا عربيًا فريدًا، كان ينخرط فيه سنويًا الملايين على امتداد العالم العربي.. كرنفالًا من الفرجة المبهجة والذي، فضلًا عما حمله من متعة، غيّر في شروط الإنتاج التلفزيوني وفي مفهوم الفن، والأهم: خلق لشهر رمضان وجهًا آخر لم نعهده من قبل.

واليوم، وفيما ينحسر هذا الكرنفال بانحسار دراماه اللطيفة الحميمة (ذات الثلاث عشرة حلقة على الأكثر)، وبرامجه المنوعة الرشيقة، وذلك لحساب الدراما الثلاثينية التي لا ترحم، والإعلانات الملحمية التي لا تنفك عن التطاول عامًا بعد عام مهددة بالتهام الفرجة الرمضانية برمتها... اليوم ها نحن نهرب مجددًا إلى طقس الفرح الذي صنعه المصريون منذ عقود: فوازير نيلي، وفوازير شريهان، وألف ليلة وليلة، وفطوطة، ودوري النجوم، ومن غير كلام. وكذلك "ضيف على الفطار" و"ضيف على السحور".. إذا ما وجدا حقًا.

ونهرب كذلك إلى تلك المسلسلات الطريفة التي جعلت من رمضان موضوعًا لها (صيام صيام، صائمون والله أعلم...)، وتلك المسلسلات الرقيقة العذبة، أو بالأحرى التي صارت رقيقة وعذبة لأننا شاهدناها في رمضان أول مرة: ليالي الحلمية، أرابيسك، العائلة، البشاير.

أنشأ المصريون، من بين الأشياء الكثيرة التي أنشأوها، الدراما التلفزيونية العربية، وجعلوها فنًا راقيًا يقف إلى جانب المسرح والسينما في صف واحد. ومع الدراما أتقنوا صناعة برامج المنوعات بكل أشكالها: حورات، فوازير، مسابقات، استعراضات.. وغيرها من البرامج "المسلوقة المنسوخة" الرائعة والجميلة.

والأهم أن المصريين مزجوا كل ذلك في رمضان، محولين شهر الصوم إلى موسم سنوي، سوق ممتد للتسلية الذكية، والفن المرح، والمتعة العميقة.. لكثير من أعمال الدراما والبرامج التي صاغت وجدان الملايين وظلت جزءًا من ذاكرتهم.

وهكذا صار شهر رمضان في العالم العربي شهرًا مصريًا، ويوم الصوم كان يجري وفق توقيت مصر في أمكنة كثيرة: الظهيرة لمحمد متولي الشعراوي، وأوقات قبيل الإفطار وبعيده تغمرها أصوات سماوية للنقشبندي وعبد الصمد وغيرهما. أول المساء فوازير نيللي أو فوازير شريهان، ومن ثم فطوطة سمير غانم، والسهرة مع واحد من الروائع الدرامية: عصفور النار، وقال البحر، زينب والعرش، سفر الأحلام، ضمير أبلة حكمت.. وفي منتصف الليل ثمة وجبة خفيفة، كوكتيل من فؤاد المهندس ومدبولي وعادل إمام ومحمد عوض.

وفي العيد نستيقظ صبيحة اليوم الأول على تسجيل مصري للتكبير يبثه تلفزيوننا المحلي، ثم تأتي المقبلات فاتحة الشهية: أغان لشادية وفايزة أحمد، وأفلام، أو مقاطع من أفلام، لعبد الحليم وفريد الأطرش، قبل أن يحين موعد الضحك المقهقه: مدرسة المشاغبين، شاهد ما شفش حاجة، العيال كبرت، سك على بناتك، ريا وسكينة، شارع محمد علي.

لقد أدخلت الدراما التلفزيونية مصر إلى كل بيت عربي، ولكن الفن المصري الرمضاني حمل ملايين العرب إلى قلب مصر، حتى بات الكثيرون يتخيلون أنهم يحيون طقوس شهر الصوم في شوارع القاهرة وفي مقاهيها، حتى وإن كان أي منهم لم يزر القاهرة أي مرة.

الآن توسع الموسم الرمضاني وانفتح على مساهمات بلدان عربية عديدة، برامج من مختلف البلدان، ودراما سورية وأردنية وخليجية ولبنانية.. وهناك أشياء ممتعة بلا شك، ومع ذلك فإن شيئًا جوهريًا قد تغير. لقد صار الفن الرمضاني سوقًا أكثر من كونه كرنفالًا، والإعلانات تبدو وكأنها الهدف النهائي لكل المنتجات الفنية، والسباق المحموم للدراما صار يقذف في وجوهنا أعمالًا متجهمة صاخبة دموية.. في خيانة لاتفاق البدايات الذي وقعته الدراما مع رمضان: أن تحاكي العائلة العربية بلطف، وتنطق باسم الناس العاديين، تأخذ بيدهم، تحاورهم وتخفف عنهم.

وحتى برامج المنوعات تغيرت لأن تغدو قاسية، قليلة المرح، مصنوعة ومفتعلة، بعيدة عن الارتجال و"اللهوجة"، بمعنى أنها بعيدة عن العفوية والحميمية.

ولكن الحل، طبعًا، ليس في ما يقترحه البعض من إلغاء الموسم الفني الرمضاني، وجعل رمضان على الشاشة شهرًا عاديًا مثل بقية شهور السنة.. هذا قتل للمتعة وإلغاء لطقس عربي لا نظير له، فضلًا عن أنه أمر لم يعد متيسرًا.

الحل هو في تقليم أظافر الإعلانات التجارية، وترشيد المنافسة، وإنتاج برامج ومسلسلات أكثر انسجامًا مع روح رمضان.

باختصار.. العودة إلى ما اقترحه المصريون منذ نحو نصف قرن: فرجة رمضانية ممتعة، تجمع المرح والفائدة، الخفة والعمق، التسلية والتفكر. البكاء على صوت النقشبندي والضحك على نكات عادل إمام.. برامج فيها من عفوية الارتجال ومهارة الاحتراف وشغف الهواية.. برامج "مسلوقة على عجل ومنسوجة على المنوال نفسه"!