24-نوفمبر-2015

تزفيتان تودوروف.. صرخة مفكر في وجه تطرف الغرب(لويس جين/أ.ف.ب)

يحفل عالمنا اليوم بالكثير من المفاهيم ذات الحمولة الفكرية الثقيلة، التي تمكنت من صياغة ملامح واقعنا بفضل تطبيقاتها العملية وارتداداتها العنيفة على السياسة والثقافة والإعلام وعلى المجتمعات الإنسانية عمومًا، فمفاهيم مثل الإرهاب أو الديمقراطية أو صراع الحضارات أو حرية التعبير، كلها مفاهيم تبلورت وتم التنظير لها داخل البيئة الغربية، لتشيع وتنتشر في الأدبيات الإعلامية والثقافية الدولية بشكل كثيف ومركز، في ظل عجز نُخَبِنا عن توليد مثل هذه المفاهيم أو على الأقل استيعابها وإعادة صياغتها وفق ما يتناغم مع بيئتنا وجوهر حضارتنا، فغدت كأنها نقيصة وشتيمة كلما سيقت في إطار ما نعانيه اليوم من أوضاع مزرية.

هناك عجز لدى الغرب في التمييز بين الإسلام وبعض المسلمين المتطرفين والإرهابيين 

صارت كل هذه المفاهيم مقرونة بالاستبداد والتخلف والعنف إلى حد شيطنة أمتنا وتصويرها على أنها الأمة المتعطشة للدماء التي لا هم لأفرادها سوى إفناء الحضارات الأخرى، لأن هذه المفاهيم المنتجة في الغرب، ولسوء الحظ، طغى على معظمها الطرح المتشدد المتشبع بروح الكراهية وإقصاء الآخر، والذي ينبع من خلفيات عقدية ونظرة شعبوية وأيديولوجية متزمتة لمنظرين من أمثال صامويل هنتنجتون أو فرنسيس فوكوياما أو حتى أحزاب تنتمي لليمين المتطرف وقيادات سياسية من دائرة المحافظين الجدد.

في المقابل انحسرت الأصوات الهادئة لثلة من المفكرين الغربيين الذين يتميزون بحس نقدي رفيع ونزعة إنسانية صادقة، لكنهم تعرضوا للتهميش بصورة متعمدة وكُتمت أصواتهم إعلاميًا فما عادت تُسمع، لا لشيء سوى أنهم يدعون من خلال أفكارهم إلى التقارب وبلورة فهم مشترك للقضايا العالمية، في إطار من المساواة وتكافؤ الفرص بين الشعوب والحضارات على اختلافها، دون أي نظرة دونية أو ممتهنة لهذا الآخر، الذي يعاني العديد من الأزمات المزمنة والتخلف العلمي والاقتصادي.

من هؤلاء، الفيلسوف والمفكر الفرنسي المولود ببلغاريا سنة 1939، تزفيتان تودوروف، الفيلسوف المعاصر ذو النزعة الإنسانية الذي يؤمن بأن جوهر الحضارة يكمن في الاعتراف بالإنسانية الكاملة وبالتعدد الثقافي للآخرين، لأن الحضارة قائمة، إجمالًا، على الانفتاح لا على الانكفاء والتقوقع، لذلك فقد تصادم بشكل صريح وقوي مع رؤية هانتغتون صاحب نظرية "صراع الحضارات"، التي ظهرت في سنة 1993 وصارت منذ ذلك الحين مرجعًا للخطاب الغربي المشكك في نوايا الآخر الأجنبي ويصوره على أنه مصدر الخطر الحقيقي الذي يهدد وجود الحضارة الغربية، خصوصًا إذا كان هذا الآخر مسلمًا.

يعتبر تودوروف ذلك خوفًا مرضيًا، قاد الغرب إلى تصنيف المسلمين في خانة البرابرة المتوحشين، قبل أن يتحولوا هم أنفسهم إلى ممارسة سلوكيات موغلة في التوحش والبربرية ظهرت شواهدها في الكثير من الحروب التي استهدفت المسلمين في عقر دارهم، وأبرزها فظائع سجني أبو غريب وغوانتانامو.

يدعو تزفيتان تودوروف، في كتابه "الخوف من البرابرة، ما وراء صدام الحضارات"، إلى التحلي بالتسامح مع الآخر وإزاء الأقليات التي تعيش داخل الغرب، والدعوة إلى التعايش مع الثقافات المختلفة، ويهاجم في نفس الوقت الشعبوية اليمينية المتطرفة في الغرب، التي استقوت وتوطدت بسبب خطابها المعادي للآخر.

تودوروف: "إن الخوف من البرابرة شعور يوشك أن يجعلنا نحن أنفسنا برابرة" 

يرى تودوروف أن "الحروب الحالية لا تمت بصلة إلى صراع الحضارات، كما أن الغرب لن ينجح في محاربة الإرهاب إلا بفصله عن الدين الإسلامي، والسعي إلى معرفة جذوره المذلة والمهينة التي تمس شريحة كبيرة من سكان العالم"، خصوصًا في ظل العجز الفادح لدى الغرب في التمييز بين الإسلام وبعض المسلمين المتطرِفين، والمتطرفين والإرهابيين، وهو ما جعل هذا الغرب لا يفكر إلا في استخدام القوة كرد فعل على البربرية المزعومة واللصيقة بالمسلمين تحديدًا في المخيال الغربي.

يحذر تودوروف من سيطرة هذه الفكرة بالقول: "إن الخوف من البرابرة شعور يوشك أن يجعلنا نحن أنفسنا برابرة"، ويدعو مقابل ذلك، إلى التخلص من فكرة الصراع التي يعتبرها سطحية ومؤذية، والسعي لإيجاد أنموذج يستوعب جميع الثقافات، فيقول: "لكي نتآلف ونتكيف مع تعقيدات العالم، ونتجاوز الصعوبات يجب أن نتخطى مقولة صدام الحضارات لنقوم بالتفكير في أنموذج يضمن تنوع الخصائص الثقافية، ويساهم في بناء نزعة عالمية كفيلة باستيعاب الاختلافات ودعم تقدم الحضارة ورقيها".

في حوار مع قناة يورو نيوز، بتاريخ الثاني والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2010، أكد تزفيتان تودوروف، أن "الصراعات التي تحتدم اليوم ليست صراعات ذات طبيعة دينية مهما جاهد البعض لإيهامنا بذلك، بل هي صراعات ذات طبيعة سياسية"، كما نفى وجود مشاكل يعانيها الغرب مع الإسلام، وإنما هي مشاكل مع عدد من البلدان، ولكن ليس مع كل الدول الإسلامية.

ألف تودوروف إنتاجات أدبية وفكرية وفلسفية غزيرة، كلها مدبجة بنزعة إنسانية نقدية تحترم بقية الثقافات والحضارات الموجودة على الأرض، ومن أهم كتبه: الخوف من البرابرة، ما وراء صدام الحضارات، ذاكرة الشر، إغواء الخير، نحن والآخرون، مواجهة المتطرِّف، الحديقة المنقوصة، وغيرها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سيرج غانسبورغ وزياد الرحباني.. عبقرية وانحطاط

وودي آلن.. الكمّ على حساب الكيف؟