24-يوليو-2016

كارول لي/ أمريكا

"مخذول أنا، لا أهل ولا حبيبة!"، لا أعلم كيف استطاع الماغوط أن يلم شمل أغلب الأوجاع في تركيبة جملة بسيطة واحدة، هذه الجملة التي في نظري من أكثر الجمل إيلامًا، الفقد الذي يؤدي إلى الخذلان، أن تُطعن بالخنجر المقدس الذي ترفعت عن فقدانه وخسارته وسموت به إلى أعلى المراتب، أن تشعر بأنك مخذول من أقرب المقربين، من الجهة التي ذهبت إليها نبضات قلبك، من دمائك السارية في جسدك، من أفكارك الراسخة، من ثوابتك الأخلاقية، أنت مخذول بالكامل.

تشرب كوب الشاي الساخن وأنت تجلس في شرفتك في الصباح الباكر وتنفث أمواج الدخان في وجه الأشجار والعصافير وتتساءل هل الإنسان فقط هو من يشعر بالخذلان دون باقي المخلوقات؟ تشعر بالحقد تجاه العصافير واليمام، المخلوقات الصغيرة الضعيفة التي لا تشعر بالخذلان ولها أجنحة وريش، تطير فوق أسطح العمارات وتقضي حاجتها فوق رؤوس المخذولين أمثالك، فتشعر أنك أضعف كثيرًا من عصفور وحيد، أنت مقيد في مكانك، أسير الوطن والأسرة والظروف والتقاليد، والطيور حرة في السماء تذهب أينما تريد وتفعل ما يحلو لها، وأنت تفعل ما يحلو للمجتمع والناس.

يقول رياض الصالح الحسين: "أنا ولد مشاكس وغير لئيم، لدي كتب وأصدقاء ولا شيء غير ذلك". هذا هو الوصف بالتأكيد، أنت مشاكس ترفض ما يدور حولك من الغباء المتفشي في المجتمع ومن الأخلاق الزائفة والمهاترات الكاذبة ولكنك غير لئيم وغير خبيث، أنت طيب وساذج وغبي، لا تدرك أصول لعبة الحياة، لا يتعلق الأمر بما تؤمن بل بما تقول، آمن بما تشاء وقل ما يريده منك المنصتون، تنجو، تعلمت من الكتب أن تكون صريحًا وواضحًا تصف الوضع القائم بشكل مفصّل ومحدد، ولم تتعلم أن الكتب غير الحياة، فالورق لا يتنفس ولا يجيبك إن سألته ولا يردك إن أسأته ولا يحبك إن نافقته ولا يكرهك إن مزقته إربًا، لا يريد منك جزاءً ولا شكورًا، ولا يرجو منك دليلًا على ولائك، يقول فتسمع، وتقول فيصمت، لا مجال للجدال الفارغ المضمون، يقدّم لك ما لديه ولا يريد أن يكون المنتصر لأفكاره، يطرحها ويرميها إليك، فإن رضيت كان بها، وإن لم ترضَ لن يجادلك أبدًا ولن يلومك أو يتهمك بالخيانة أو السذاجة أو الغباء، لن يحاسبك على ما يجول بخاطرك، ولن يكسر قلبك ولن يقتل مشاعرك ولن يرضى لك السعادة أو العذاب ولن يسألك القرب أو البعد أو الحب أو الجفاء، لذلك أصدق الأصدقاء هم من يشبهون الكتب في صفاتهم.

تشعر أنك بعيد عن الجميع إلا الكتب، تكره الوحدة كثيرًا والكتاب لن يؤنس وحدتك، نعم هو وفي لك ولكنه لن يجيبك إن سألته، تريد أن تشعر وتحس وتلمس وتتكلم وتنصت وتحب وتكره، يقول رياض الصالح الحسين: "الذين يحبونني لا يتركون لي فرصة للموت، والذين يكرهونني لا يتركون لي فرصة للحياة".

هل هذا هو شعورك الآن؟ أنت بعيد كل البعد عن كل من يحبونك وبدأت تشك في كل لحظة سعيدة قد عشتها معهم، ويظل بداخلك بذرة يقين لم تمت بعد تخبرك بحبهم الذي لن ينضب، تفارق الحياة؟ هي غير مهمة لك ولكنك غير أناني، أنت طيب وغبي، تهذب نفسك بالشفقة على أحبائك الذين في ظنك قد يتأثرون بغيابك، ربما تكون مجرد أوهام كاذبة تجول بخاطرك أو أسلوب دفاعي من لاوعيك حتى تكمل الحياة، تقول لنفسك إن الذين يحبونك لا يتركون لك فرصة للحياة، وفي ذات الوقت أنت محاوط بالكارهين، هذا الطقس السيئ يكرهك، وهذا اليوم المشؤوم يكرهك وهذا الوعي المؤذي يكرهك، وهذا الكتاب التافه يكرهك، وهذا الفيلم البغيض يكرهك، وهذا الصديق البعيد يكرهك، وهذا الحبيب الغريب يكرهك، وهذا الغريب الحبيب يكرهك، حتى فنجان قهوتك وسكره الأقل من المعتاد يكرهك، كل من يكرهك لا يترك لك فرصة للحياة، أنت تحيا ولا تحيا، لقد توفيت منذ زمن ولكنك مستمر في الحياة.

اقرأ أيضًا:

صغيرًا في بلاد.. كبيرًا في أخرى

ماء سريع الالتهاب