01-مايو-2020

مادلين بك/ السويد

تكمن مشكلة الشعراء في أنهم يريدن نقش وجودهم داخل الزمن، فلا أحد يريد أن يموت دون أن يترك هذه البصمة. المشكلة في ذلك أن قلة قليلة تستطيع اجتياز حاجز الزمن وترك النقش داخله، أو في فجوته. يقول دريدا إن هناك كتابة أصلية قبل كل كتابة، إنها شيء لا يمكن اختصاره أو حذف تاريخه ووجوده وآلية تقدمه وتطوره عبر الزمن.

الشعر حدث متطور داخل الزمن نفسه، يأخذ مروره عبر حاجز الزمن من ابتكاره للغة جديدة

الشعر حدث متطور داخل الزمن نفسه، يأخذ مروره عبر حاجز الزمن من ابتكاره للغة جديدة. مثل أن أقول الآن مستعيدًا حدثًا سابقًا: "الآن بالضبط تخرج امرأة من باب البيت، في اللحظة نفسها كان هناك رجل آخر يصعد الدرجات، رجل كان يقطف القرنبيط في يوم ممطر وعاصف. ولأنها أمطرت أنهى عمله عند استراحة الظهيرة، ورجع إلى البيت. أثناء ذلك كانت المرأة تنزل درجات البناية وفي المنتصف، منتصف الطريق التفت الساق بالساق وحدث شيء ما، جعل الرجل على الدرجات مشحونًا بالدفء واللحظة مثل نسر غاضب يضرب بجناحه ويريد أن يطير".

اقرأ/ي أيضًا: الكتابة الروائية.. قريبًا من باختين بعيدًا عن سيبويه

بغض النظر عن الأصل، منحت الكتابة اللغة تحولاتها دائمًا، وأعطتها القدرة على نقش اللحظة كما لو كانت أبدًا، كما لو كانت الزمن كله. حدود الرجل هنا أنه يصعد على الدرجات، لكنه يبدو كما لو كان يمشي إلى الداخل، كما لو كان ذاهبًا إلى حقل أخضر من القرنبيط.

أما المرأة النازلة عن الدرجات ممسكةً بهاتفها النقال، فليس لها حدود، إنها احتمال. احتمال اندلاع النيران في قلب ممرّن بشكل جيد على الأسى، بحيث لم يعد يرى حدود مخيلته، كأنها والزمن مجرد خدعة.

 يصعب فصل الكتابة عن الحب. بالأساس الحب حدث قائم على اللحظة، الأساس هنا، نار اللقاء، اللحظة ذاتها، أو القصيدة والكلام الذي يصدر عن القلب، عدا عن ذلك، يحمل الحب طبيعة الكتابة. وفق دريدا تقوم الكتابة على الاختلاف، بمعنى أنها تقوم أساسًا على التحاور، الالتقاء والتجاوز، ثم الاستمرار، أي أنها تحدث في الداخل. في الداخل تلد اللغة نفسها، لا يحكمها قانون، بحيث تكون الكتابة مرات متقدمة على اللغة، وفي أخرى متأخرة، ومرات، مرات مثل هذه، تمشي ببطء، مثل سيارة قديمة.

"كنت صاعدًا الدرجات والمرأة كانت نازلة، باتجاه عملها، لا أعرف بالضبط إلى أين كانت ذاهبة، ولا أنا أعرف إلى أين كنت أمشي ولزمتني سنة طويلة حتى أدرك أن الأمر كان مجرد حدث عادي يجري كل يوم آلاف المرات، لكن الحب جعله حدثًا ولحظة نادرة".

في هذه اللحظة بالذات، أمسى الحب هو البعد الوحيد للكتابة في الزمن. وإذا كانت اللغة هي إفصاح متأخر والكتابة فعل اختلاف، فالحب كذلك أيضًا؛ إفصاح متأخر وبطيء وقائم على الاختلاف. هي امرأة وأنا رجل ومن شأننا في احتمالاتنا البشرية هذه، أن نترك نقشنا في الزمان، بالمصادفة الخرافية هذه وتحت حكمها.

في رواية "كأنها نائمة" لإلياس خوري، كانت هناك سيارة بطيئة، تقطع الجبال بين فلسطين ولبنان، وكان هناك امرأة هي ميليا ورجل اسمه منصور كان عاشقًا للشعر، قبل أن يكون عاشقًا للمرأة التي جاءت من بيروت لتتزوج منه في الناصرة، في فلسطين.

منصور الذي يحكي الشعر كمن يروي منامًا، يقوله بطيئًا بطء السيارة التي تذرع الجبال، لا أراه الآن إلا كناية عن الحب والكتابة، كتابة الشعر بالضرورة، قد يكون ذلك غير صحيحًا بالمرة، وأن هذا كله مجرد تأويلات محبٍّ للشعر ويكتبه، ومن سوء حظه أيضًا أنه عاشق، لكن مهلًا ألا نستطيع أن نقول إن الحب والكتابة وتقاطعاتهما حالة ضرورية لخداع الزمن وتجاوزه؟

ألا نستطيع أن نقول إن الحب والكتابة وتقاطعاتهما حالة ضرورية لخداع الزمن وتجاوزه؟

يقول بول شاؤول إن الشعر فراغ، فرناندو بيسوا يقول إن الحب فكرة. وأميل إلى قابلية كل شيء إلى التكرار، الشعر والحب والافكار، في الفراغ أو الزمن أو أي شيء.

اقرأ/ي أيضًا: "المناسباتية" وباء الشعر في زمن كورونا

مرات يمكن أن يخرج شيء عن الإطار، قصيدة جديدة، أو جملة أو فعل، أو امرأة نازلة من الدرجات تنظر إلى هاتفها النقال وتفكر في أن الوقت مبكر أو متأخر على الحب، أو رجل يقطع الجبال بين فلسطين ولبنان ويفكر في أنه نسر ويريد أن يطير، غير أنه لا يستطيع أن يكون ذلك النسر ولا يستطيع أن يطير.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رسائل خوليو كورتاثار: اليوم يضاف إلى أحزاني حزن جديد

الكتابة الشجرية والكتابة العشبية