24-مايو-2023
The Artist Yousef Ahmad

لوحة لـ يوسف أحمد/ قطر

1

لوّحتْ إِليّ المسافة بين أوّلِ حبّةِ رملٍ على أطراف البلاد، وآخرِ مُربّعٍ من الإسمنت في طرفها الآخر، فتهامت ذراعي خلف المقود تطفق بي أرجاء المكان، كأني لم أعهده من قبل، ولم أتشرّب نسائمه. كأنّي غيمٌ سافر نحو قطعة الأرض التي تنسّل عن براءتها، من أجل أن يغسل الزمان فيها من آثامه، قبل رحيل.

لا أذكر الساعة، فهي هامِشٌ منسيٌّ أسفل متنِ التجاوز. حصيلة غابرة مركونة، حصاد في موسم الشبع.

والوقت، الذي يثير الغبار في وجه الربيع، ويطبق الخناق على الفضاء الراحب، ويطارد سرب الذاكرة برصاص الحاضر، لم يكن سادرًا في نُعاسِه، لكني أرغمته على النوم، بعد نِزالٍ مُفاجئ، ومناورةٍ شرسة.

المدينة من بعيد تلهو، مثل طفلةٍ تلعب بالمحبرة، ولكنها بالقرب من هنا تغرقُ بالرماد، مثل مكبّ سجائر.

تشبه جغرافيا المكان الذي يضيق ويتسع في الأحوال التي تفصح -أبلغ ما تفصح- عن بِنية القلق وهي تطوّق أبناء خليجِها، تشبه هذه الجغرافيا المكانية: جغرافيا القلب اللجوج في وقتنا الحاضر

ونحن العابئون بالأشياء، نسبر المدى، كالماء الذي يسري في جوف القفر الماحل.

ورغم ذاك، لسنا ماءً. لسنا كالماء، لا أزعم ذلك؛ بل لو كنا، ما يدلُّ على الماء أو يقرب منه أو يقترن بِظِلالِه، فسنكون ليس إلّا: ظمأ الماء. سنكون ظمئه الظامئ جدًّا.

أو إنا سنكون ربّما، في وقتٍ لم يعد نائيًا من موقعنا هذا الذي نجوس حوله جوْس المجذوبين، سنكون -ولا بد: الماء الظامئ، أو سنكون -ولا ريب- الماء الهادر وهو يظمئ، في ظمئه الأبدي.

وظمأ الماء هو الظمأ.

2

تشبه جغرافيا المكان الذي يضيق ويتسع في الأحوال التي تفصح -أبلغ ما تفصح- عن بِنية القلق وهي تطوّق أبناء خليجِها، تشبه هذه الجغرافيا المكانية: جغرافيا القلب اللجوج في وقتنا الحاضر.

اخترع الإنسانُ شركات الإنشاء والتعمير، وأطْلقها تحفرُ في الأشياء والموجودات من حوله، تغرِسُ مخالبها في أحشاء القاع القاسية واللدنة، وغفلَ أنّها بمقدار ما تصنعُ بِنى جديدةً في العالم الخارجي، فإنها -في الوقت ذاته، وبذات القدر من التجذّر- تزاول الحفر الحثيث في أغوارِ نفسه، وتخلق -بالمثل- في عالمه الداخلي: فضاءات سحيقة، سريعة الخطو، ثقيلة الوطء، تستدرجه في متاهاتها اللانهائية، ويؤول حاله في النهاية، ولاسيما حين يصحو من إغماضته ويفزع عن سكرته، إلى مفارقة مريرة بأنه حين شيّد الأمكنة: انسلّ عنها وتجرّد،

بأنه حين أمعن في توطّنه: أوغل في التغرّب،

بأنه نِتاج صِنوين متنافرين، وضِفريْنِ متقارعيْن.

فها تلك الطرق والأرصفة والمبان التي تلتئم في ذروتها الحرجة، لتشكّل خارطة البلاد الممتدة والمتداخلة؛ ولكن مسكينة هذه الخارطة الخارجية، إذ مهما كان أمرها، فليس يفوق تشابكُها وتعقيدُها ذاك التشابك والتعقيد لخارطة العالم الداخلي الهائل المُدْعى "النفس البشرية".

إنها سيرورتان منقسمتان على بعضيهما، تنسلّان في شرايين الشيء والذات والموضوع لتصنع منها كيانًا هُلاميًا يُفْرِطُ في وضوحه. وليس من شيءٍ يُواري هلع الإنسان الفارع مثل الهُلاميّة، وليس من شيء ينكأ جرحه الذي لا يزال يتكوّر في بطن الوجود مثل الوضوح.

ها قد تلاشت الخطوط بين الألوان، والحدود بين الأمكنة، حتى أوشكت العزاءات أن تُقام في غُرف الولادة.

3

أذْرُعُ السنين التي انصرمتْ من عُمر المدينة، كأنّي أُبْحِرُ في زمانٍ أبديّ.

ولا أدري متى رهنْتُ الغِوايات؟

ولِم اخترتُ أن أُقارع الاحتمالات؟

وكيف كان حالُ الحقيقة؟

النهارُ هو النهار، ينتهي كل يومٍ بانسفاحِ حُمرة الشمس الأخيرة على بياضات الثِّياب المُترعةِ بعفافها، فيحيلها إلى فصيلٍ من المُذنبين.

الليل كلّ الليل، يتّئِدُ بالأغلال التي تنازعه المكوث، حتى إذا حلّ مطلع الفجر، أحال الساهرين في أجوافِ غُلالِتهِ إلى ميدان المكاشفة.

المدينة، تبدو مُدانة هذه المرة. لم تنعمْ بترفِ التهمة التي تجعل الموقف منها -في البدء-: مُحايدًا. لم تهنأ بالوقوف على منبرِ اللحظة التي تسبق إثبات الجنايةِ أو نفيها

المدينة، تبدو مُدانة هذه المرة. لم تنعمْ بترفِ التهمة التي تجعل الموقف منها -في البدء-: مُحايدًا. لم تهنأ بالوقوف على منبرِ اللحظة التي تسبق إثبات الجنايةِ أو نفيها.

وفي المجال المفتوح الذي أتسربلُ في طيّاته، لست متأكّدًا ما إذا كان الجو صحوًا -ساعتها- أم أني أتوهّمه كذلك.

الشوارع تنسدلُ، وفي انسدالها هذا يبرُزُ إتقانها الكبير لفنِّ الاشتباك.

تصطفُّ السيّارات أمام الضوء الأحمر القاني. كأنها الطلقاتُ الساكنةُ مشط الكلاشنكوف.

تطلُّ البيوت على مشهدِ الحراك اللحظيّ الذي تذاوت دهشُتُه الأولى، فأصبح محض اعتيادٍ فاتر. مصبوغة تلك البيوت بهاجسٍ يشيخ، حتى يوشك أن يلْفظ أنفاسه.

أمشي في المدينة، أو أظنّها هي التي تمشي فينا، أحدنا يجوب بيداء الآخر؛ وبخلاف ما قد يبدو بدهيًّا ولا سبيل إلى مساءلته؛ فإنها هي التي تجوبنا. تحمل: أوزار الأسلاف في الأزل، والذين بصدد الوداع، والأجنّة الحائرين، تحملهم وتحملنا نحو وجهةٍ غيرِ مُفْصحٍ عنها، ويستحيل وصولها.

سِيط من دمِ المدينة خيطُ جنايتها، ونُسِجت من حفيف السكون، بل قُدّت من دبيب الضجيج: براءتُها المالحة، في آن. وفي كل آن.

4

في إرجاع العين إلى تجريداتها الأولى، إلى أول حدٍّ من حدود المعنى الذي ترسمه العينُ بفُرشاتها، يمْثُلُ لدينا: الكشف. كشفُ صورةِ الأشياءِ في صِيغِها الأولى، في أوّلِ صفحةٍ غضّةٍ من كتاب ألوانها. بهذا المعنى -بمعنى الكشف والاكتشاف والتكشّف- تغول الإنسانُ سابرًا أبعاد الأرض ومقاييسها، يتنازعُهُ التوقُ والحذر والطمع. وحين بدا أن اللجام الذي تضعه الطبيعةُ على عُنُقِ آمالِهِ وتطلّعاته: مُحكمًا، بدا أن هذا اللجام مع تقادم الدهر قد أُلقِي على عاتقه، فللإنسان حين ثمّ أن يضع، وله أن ينزع. بل صار له أن يمارس الوضع والنزع على الذات وعلى الموجودات.

كما بدا -في مُنتهى المطافات- أن معنى اللجام يشابه معنى العمى. فالعمى في تجريداته الأولى، في أول حدٍّ من حدود المعنى الذي يبعثه هذا العمى هو الخفاء، والتعمية هي الإخفاء. بقدر ما يصير البصرُ كشْفًا، ويكون الإبصارُ إظهارًا.

ثمّ إذن تضادٌّ غير مباشر بين العين واللجام، ودرجته في الحدّة مطابقة لحدّة النزاع السرمدي بين الذات والموضوع.

مع ذلك، فقد تهشّمتْ الفوارق التي أمازت ماهيّةً عن أخرى، وانقسمت لا الموضوعات على ذواتها؛ بل تشظّت الذوات على موائد موضوعاتها. وصار كلّ من الطرفين يوغل في تشريح الآخر واستباحته.

في سيرورةِ تحول المعاني واطّراح وظائفها الأولى، تبدّى لدى الذهن البشري معنى "العين الضابطة" إزاء اللجام الذي يحاول أن يرمي به "المتفلّت". هذه بكثافة مجازية مُقتضبة: قصة كاميرا المراقبة.

5

أخترِقُ الامتلاء الكثيف الذي ألقى في روعِ المدينة: هاجس "التشظّي".

المدى مُطبقٌ بالأجسام التي يجترّها الخوفُ نحو الحركة، دون هدأة.

في سيرورةِ تحول المعاني واطّراح وظائفها الأولى، تبدّى لدى الذهن البشري معنى "العين الضابطة" إزاء اللجام الذي يحاول أن يرمي به "المتفلّت". هذه بكثافة مجازية مُقتضبة: قصة كاميرا المراقبة

لم أكن في جموح السهام التي تمرقُ من الرمِية، ولا في سكون الرِّماح المُسجّاة قبل هزوعها؛ رغم أنّي كنت -مع ذلك- أستعجلُ خطو العجلات اليابانية. أستحثُّ دبيبها، وأُلقي أمامها ولعي وارتيابي علها تفزع؛ وكنتُ كلما شددتُ على عروقها وأضلعها أُسْقِطتْ في أيدي المكابح.

كنت أرى كلمات لا حصْر لها: مُلقاة على قارعة الطريق، والحدائد تعبِرُها.

وأرى قصائد تُتلى على رؤوسِ الإشاراتِ الضوئيّة، كلما أوشكتْ بلوغ خواتيمها: غصّت بالضجيج وألقت حشرجتها السرمديّة.

وأرى طيوف الذين عبروا في غوائر الأزمنة، يشخصون في المكان الذي ألقى بجلدِهِ مدارج الريح.

ناهزتُ مشارف الأبراج التي تنيف على آمالنا، وآلامنا، وتخبّئ بين جنباتِها أسرارنا. أسرارنا التي بها يتوارى بعضُنا عن بعضنا. الأبراج التي تعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا.

وفي مسعى، بدا أنّهُ خائب، منذ أن كان نيّةً صُغرى، تنسلّ في ستائر القلب، تموجُها عواصفُ الهموم المعيشية، وتُنيخها أطوار الغدوّ والعشيّ اليوميّ في تحصيل حاجةٍ لا تموت، أزمْعتُ أن أجُسّ نبض هذه الأبراج، وأحفر في الأبراج بحثًا عما لا تعرفه الأبراج عن نفسها.

6

أجرى الدهر على وعيِ الخليقةِ أهواله، وأشجّ أبصارهم، فامتزج حدْبُ المرايات بُقعْرِها.

أسالت الذاكرةُ دمائها، واحتال الماضي نسجًا أبديًّا للحاضر.

مارت الأعوام، بل العقود، بل القرون، من ملهاة الإنسان وذاته، كأنما هي لحظات يتخطّفها الفضاءُ، ويُذرّيها على رُفات الأحلام والمصائر.

هل يعلم الإنسان حجم الذي دُوّن عنه وأسلافُه؟ ما حال الآثار التي درستْ؟ ما حال أصحابها؟ هل يوجِعُ الأموات نسيانُ أخبارهم؟

يقيني يقول بأن النطق: فضاءُ مديد، والقول: رياح ذارية. وأن الشفاهة: بحر متلاطم، والتدوين: جداول متقطّعة.

ورغم توثيقات المؤرخين ومقارباتهم، فإني لست متيقّنًا متى اخترع الإنسان الكتابة. الاستيقان يفترض الإحاطة بالآراء التاريخية الحفرية المتنوعة، وسوْقها ترجيح إحداها. وعلى الوجه الأدق، لا أدري متى احتالت الكتابةُ -في سيرورات تطوّرها- من تأطير المعاملات والنظم العامة إلى صناعة الإنسان وإعادة توليده. يرى مؤرخ الكتابة الألماني يوهانس فريدريتش أن الكتابة البشرية قد تطورت عبر أربع مراحل. في البدء: كان الحرف الواحد المكتوب بمثابة الرمز الذي يدلُّ على عبارةٍ كاملة (الإيدوغرافيا)، ثم صار الحرف الواحد المكتوب يعبر عن كلمة واحدة قائمة بذاتها (اللوغوغرافيا)، ثم جاءت الكتابة المقطعية التي تركّبت فيها الكلمة من عدة مقاطع. وأدّى تدرج أشكال الكتابة في نهاية المطاف -وفي عملية يشدد فريدريتش على مدى تعقيدها الشديد- إلى ولادةِ الكتابة الأبجدية التي صار لكل رمز فيها صوتًا محدّدًا.

يقيني يقول بأن النطق: فضاءُ مديد، والقول: رياح ذارية. وأن الشفاهة: بحر متلاطم، والتدوين: جداول متقطّعة

ولكن لا يزال التساؤل ثائرًا على أشُدِّهِ: متى أصبحت الكتابةُ مصهرًا لإبادة النسيان؟ ومصنعًا لتأبيد الأقوال والأفعال الإنسانية؟ بعد أن كانت محض أداةٍ تصف الفضاء وتوثّق الموضوع.

لم يدر -ربما- بخلدِ الصينيين أنهم باختراعهم الورق، قد خطّوا في مدى الذات البشرية مسيرًا جذريًّا جديدًا، وأنهم أيقظوا المآرب من سباتها، وأوقدوا الحيل من رمادها. وأن النعمة التي جاءت بها ورقُة الكتابة، وخُلصُت بها الخليقةُ إلى ما يحفظ شعث ذاكرتها، ويرتب فوضى شؤونها، سرعان ما ستحتال إلى نقمة تطاردهم حتى الوفاة، وتضع حركاتهم وسكناتهم في حبسٍ يُدعى "الأرشيف".

ما هو الإنسان قبل يوم؟ أليس ورقة؟!

ما هو الإنسان اليوم؟ أليس حيّزًا سحابيًّا في نُظُمِ معلومات الدولة؟!

ما هو الإنسان غدًا؟ أراشيف مُبدّدة؟

7

وشيشُ الموج، موج الخليج، المُتنازعُ على ملكيّته. الوشيشُ الذي يجيء مُتوّجًا وفي يديه ملوحة الزمان التي يتغضّن بها وجه الشاطئ، ويصطلب لها ظهرُ الكورنيش، يسري في أكباد السامعين من أهل البلاد، ويُناغي أوصال صُمِّها، ويصافح انتباهات زُوّارِها. يحلُّ ذلك الوشيش عابثًا بدورة العواطف ورحلة الأمزجة. يعتري الوشيش بحّةٌ من أرق، وأوتاره الرقيقة كأنما صيغت من أصفى نبرة متقطّعة صدحتْ بها صرخات البحّارة إثر عاصفة، وفيه شيءٌ من قلق "النهّام" حين يغنّي في رجاء اللآلئ.

أُصخي السمع بحذر، أُلقي مجسّات الذاكرة، لا ذاكرة شخصي ولا ذكريات شخوصي في المكان؛ إنّما ذكرى كل الذين صنعوا ميدان هذا الوجود، كل الذين هندسوا حلبة هذا الوجد، الناس الذين كانوني وصِرتُ هُم.

أُصخي وأُلقي، فيظهر اختلاطُ حبال صوت ذلك الوشيش بمراسي أساطيل المستعمرين، بما في الخُلطة الهجينة هذه مِـن نشاز قاتل.

كل شيء يبدو هادئًا على هذه الضفاف. ليس بوسع الزحام الذي يتصاقب على امتدادها أن يعكّر صفوها. وإن تعكّر بُرهةً خاطفة، فسيعود سريعًا، كأن شيئًا لم يحدث. أما العين الذاهبة عميقًا في استكشاف أصول الأشياء اليومية فإنها تمعن طويلًا، ومن ثم تعود إلى سابق حالها، دون أن تلوي على حقيقةٍ واضحةٍ بشأن آثار الذين ساروا على شطآن الخليج؛ ولكن شيء دفين نابض في مغارات القلب يسمع خطوهم، ولا يني يوغل ابتعادًا مع كل خطوة، عن نفسه.

سكونٌ أشبه حالًا بالتكبيل، وصمتٌ أكثر التصاقًا بالذهول، وهدأةٌ أوثق صلةً بالزهد: ترتدي البحر، أو يرتديها.

والهدوء حين يصل إلى أرقى مراقِبه، والسكون حين يبلغ أقصى مراميه، ويستنفد الصمت فيض جعبته: فستكون بعدئذٍ للزوابع كلمتها.

كانت الدوحة على عادتها، تموج في صمتها الهادر. لا يُسمعُ فيها غير الصمت. بل لا يُسْمعُ غير صوت الصمت. كان الصمت يجيء بوصفه صوتًا، وهو هو، بوجهه الآخر، صوتٌ يجيء مُتلبّسًا بالصمت

يمور الخليجُ في دوّاماتِ الرياح التي تنتهب أمواجه، وفي مواويره الماراثونية هذه: ينشطر المعنى إلى ذرّات، فيتعدد البحر إلى ألف بحرٍ وبحر.

لا وجه لبحر الخليج رغم أنه يتقمص وجوه الذين شاطروه الملامح. وليس له معنى أوحد، من فرط اعتراكه المعاني.

يتدرّج البحر، يتدرّج الناس إزاءه. تتدرج الأشياء، المواقع، الهموم، الجروح، الألوان، الأذواق، الروائح، وكل شيء في العمق من كل ذلك، يغور تيهًا، في نسيانه وتذكّره.

8

امّحت آثار الأرجوان الشفيف الذي تبقّى قليلًا بعد أُزوف الشمس لارتحالها، واستثار مظهر السيف الأصفر حينما احمرّ وأُدخل غمدًا يلاءم مهابته: نوازع الذين يذرعون طول البلاد وعرضها، هابّين في خشوعٍ ميكانيكي، نحو أشياء سيبلوها الزمن.

وكانت الدوحة على عادتها، تموج في صمتها الهادر. لا يُسمعُ فيها غير الصمت. بل لا يُسْمعُ غير صوت الصمت.

كان الصمت يجيء بوصفه صوتًا، وهو هو، بوجهه الآخر، صوتٌ يجيء مُتلبّسًا بالصمت.