03-ديسمبر-2023
لوحة لـ أدولف مينزل/ ألمانيا

لوحة لـ أدولف مينزل/ ألمانيا

يُنظر إلى الارتجال في وقتنا الحالي بالكثير من التباهي والإحساس بالتميز والاختلاف لدرجة أن الكثير من العروض الفنية، في المسرحوالموسيقى وفنون الشارع وعروض الكوميديا الفردية، صارت تُضمِّن مصطلح الارتجال في عروضها كدلالةٍ تسويقية تُشير إلى ابتكارية العروض وفرادتها. وبشكلٍ عام، يتفاعل الجمهور مع مصطلح الارتجال باستحسان، ويعلي من شأن أي عرض تعبيري يُضمِّن الارتجال في سياقه.

ويبدو هذا في الحقيقة مفهومًا ومنطقيًا إذا ما فُسِّر الارتجال على أنه ابتكار يضمر في جوهره مزايا المرتجل من بديهةٍ حاضرة، وتمكُّنٍ من الأدوات، واستغراق كامل في الموضوع الفني إلى الحد الذي يتلاشى فيه الخط الفاصل بين أداة التعبير وبين التعبير نفسه، ويتماهى المرتجل مع الموضوع وأدواته حد التطابق.

لم يعد الارتجال محصورًا بالمسرح فقط، بل تحوّل في زمنٍ معين إلى طريقة في الاحتجاج لدى الأقليات، خاصةً السود في الولايات المتحدة

لكن هل هذا حقًا ما يعنيه الارتجال؟ هل هو تلك اللحظة التي ينفرد فيها العازف أو المغني أو الممثل، ويخرج عما هو منتظم ومتفق عليه؟ هل هو احتجاج بصيغة فنية على التواطئ الجمالي بين الجمهور والمؤدي؟ هل هو اندفاع نحو اكتمال المعنى والتحرر من جدولة العمل الفني وترتيبه إلى مشاعر وأفكار ورسالة فنية؟ هل هو لحظة تجل ينتفض فيها المؤدي ليكمل معنىً ناقصًا كان يجول في خاطره خلال استعداده لتقديم العرض؟ أو ليكشف عن خلل ما في التواطئ الجمالي بين المقدّم والجمهور؟

ربما يكون كذلك، أو ربما يكون اتجاهًا ما من اتجاهات الارتجال، وربما تكون كل هذه التساؤلات محاولة لفك رموزه، وكشف كنهه، إن كان الارتجال ذو جوهر ثابت بتفسيرات شتى، أو أنه حقًا ذو اتجاهات متعددة تختلف باختلاف البيئة والظرف والتاريخ.

التعريف اللغوي للارتجال، بشكله المبسّط، هو أنه ابتكار جمالي يقدّمه الفنان أو الممثل أو الشاعر دون تحضير مسبق. لكن هذا التعريف يبقى عموميًا جدًا، ويلامس المفهوم من السطح أو من بعيد، دون الاقتراب منه ومعرفة تضاريسه وخباياه وظاهره وباطنه.

إن هذا المصطلح، بحد ذاته، معاند للتعريف. فهو يأخذ، في كل زمن وفي كل شكل فني، شكلًا وتعريفًا خاصًا. بل إنه يتغير مع مرور الوقت، ومع تصاعد النقاش والتجربة، ليستحيل إلى شيء آخر. ولكي نفهم حالة التبدل المستمر التي تعتري مفهوم الارتجال، لا بد أن نتفق أولًا على أنه مصطلح مرتبط بشدة بالفنون والآداب ذات الطابع التفاعلي المباشر، أي مقدّم وجمهور، إذ لا يمكن أن يكون الارتجال ارتجالًا إن لم يخضع لهذه الثنائية الحتمية: عرض وجمهور.

وبهذا المعنى، ينتمي المفهوم إلى طبيعته ويحضر بشكله المتعارف عليه. ومع أن تسميته تختلف حسب طبيعة المنتج الأدبي أو الفني – في الموسيقى يُسمى "انفرادًا" وفي المسرح "خروجًا عن النص" – إلا أنه لا يتطابق مع شيء سوى الشعر، إذ يقال على سبيل المثال إن هذا الشاعر ارتجل شعرًا. وتخبرنا كلاسيكات الشعر العربي، في الجاهلية وفي الإسلام، عن استحسان الارتجال وعن المباريات بين الشعراء وما كان يطلق عليه "المماتنة"، أي وحدة الموضوع واختلاف النظم بين أكثر من شاعر في لحظتها وفي صدر المجلس الذي عادةً ما يضم شعراء وحاشية وأمير.

وارتجال الشعر عند العرب مقبول ومستحسن بحدود لأنه يعبّر عن حضور البديهة والاسترسال والتدفق والتمكن. لكن للعرب في تذوق الشعر نباهة، فهم يستحسنون ارتجاله إن هو تجاوز النظم الإيقاعي المقفى وتعدّاه إلى ارتجال المعاني والأفكار.

لكن الارتجال اتخذ شكلًا فلسفيًا مغايرًا، خاصةً في المسرح المعاصر، بعد أن بدأ توظيفه يتجه نحو النزعة التجريبية لتفعيل التجربة الشخصية للمؤدي بوصفه امتدادًا حيًا للسياق الاجتماعي، قد يتطابق مع السياق الحكائي والدلالي للشخصية المسرحية، ولموضوعها الاجتماعي.

وظهر الارتجال في مسارح أوروبا ومختبراتها المسرحية كوسيلة لتعزيز البحث الاجتماعي عبر المسرح وإعادة بناء الحكاية، أي حكاية، معاصرة أو تاريخية، بما يلائم سياقها الاجتماعي الحقيقي، وليس الدلالي أو الإرشادي المحكوم بالعبرة.

وفي هذا الاشتغال التجريبي للارتجال، في المسرح، يصبح المؤدي وتجربته الشخصية سبيلًا لبناء الشخصية وتكريس صراعاتها وكشفها. لكن التجربة الأوروبية وعلاقتها مع مفهوم الارتجال شديدة الأكاديمية وفلسفية جدًا، لدرجة أنها نالت من المتعة والفرجة. وظلت متمسكة بذلك الانبهار التجريبي الذي يرى في الممثل وعالمه الشخصي السبيل الوحيد نحو بلوغ مكامن الشخصية المسرحية، وصولاً إلى قيمة دورها الاجتماعي.

ومن جانب آخر، ولضمان نجاح هذا الجهد البحثي المخبري، اتخذ الارتجال شكلًا تنظيميًا ينافي دوره الاصطلاحي والتعريفي، ووضِع في إطار الارتجال المنظم، على اعتبار أن الارتجال يبقى متاحًا في فترة التدريبات وفي المرحلة التجريبية بحيث يعاد كتابة النص المسرحي بالعكس، إذ يبدأ المسرح بمعناه الأدبي من حيث ينتهي المسرح بمعناه التجريبي. فالمسرح ذو الطابع الارتجالي يبدأ من فكرة ومن تجريب وبحث مسرحي بالأفعال والانفعالات حول الفكرة ذاتها، وصولًا إلى تنقيح النتيجة المرجوة، والخروج بعرض مسرحي مرتجل.

وبمجرد بدء العرض، يُحظر الارتجال ويتم الالتزام بما ارتُجل في فترة التدريبات بصرامة شديدة. فوفق الفهم الأوروبي للارتجال، لا يوجد نص للخروج عليه لأن تجربة الارتجال قبل التدوين هي النص المحرك والانتقائي نحو تدوين ما ارتُجل. ووفقًا للكثير من التجارب الارتجالية المسرحية في العالم العربي، يُنظر إلى الارتجال، في ضوء التجربة الأوروبية، بشكل تطبيقي يدفعنا إلى التساؤل: هل الارتجال أسلوب أم ضرورة؟

يُخبرنا تاريخ المسرح الأوروبي أن الارتجال كان ضرورة، إذ لم يكن قد تبلور بعد مفهوم الأدب المسرحي المتخصص منذ المسرح الإغريقي الشعري، وصولاً إلى ما قبل شكسبير. فالمسرح كان يُنتج آنذاك نماذج اجتماعية لا شخصيات. فالبطل المهزوم الذي يُصارع الآلهة الإغريقية، المحاط بجوقة، هو نموذج وليس شخصية. إنه منظومة من الأقوال والأفعال القولية والمفاهيمية.

ينطبق الأمر كذلك على كوميديا ديلارتي الإيطالية التي تعتبر الأصل في ظهور مصطلح الارتجال، ذلك لأن الكوميديات الإيطالية في القرن السادس عشر لم تكن ناضجة بعد لكتابة شخصية اجتماعية، بل كانت تتحدث عن طباع ومواصفات نموذجية متوفرة في المجتمع، كالبخيل، واللئيم، والجشع، والعاشق الأبله وإلى ما هنالك من نماذج أخرى.

لذلك كان الارتجال ضرورة مع غياب النص المكتوب؛ مجموعة من الصفات يقف خلفها مقدّم خبير قادر على ارتجال أفعال مضحكة على نموذج له مرجعية اجتماعية واضحة لدى الجمهور. ولكن بعد أن تطورت مفاهيم الكتابة المسرحية، وصار الأدب المسرحي ذو ملامح بينة ومنحازة لكتابة الشخصية، حلّت الأخيرة مكان النموذج الاجتماعي، وهذا ما سوف نراه لدى شكسبير وموليير وشخصياتهم المركبة ذات العوالم الداخلية بصراعاتها وأبعادها المتعددة.

في هذا العصر، انحسر مفهوم الارتجال وبقي استخدامه مقتصرًا فقط على العروض الكلاسيكية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن للارتجال أسبابه الاجتماعية والتاريخية. فهو الضرورة التي كانت تتّبعها الفرق الشعبية التي لم تكن لتحظى بفرص لتقديم عروضها سوى للعامة. وكانت في كثير من الأحيان مطاردة لا مكان حقيقي لها، ولا اعتراف قانوني بها، ما يجعل من الارتجال ضرورة في مثل هذا المناخ الإقصائي.

ويلمح لنا التاريخ، دون أن يؤكد، بأن الارتجال له بعد وتفسير اجتماعي أدى لظهوره، فهو طريقة تحايل خاصة بالمطاردين والممنوعين ليقدموا عروضهم ويجنوا رزقهم بشكل سريع، فلا وقت للتفكير والتحضير والتدريب، فكل ما لديهم منصات عامة مرتجلة تنشأ على عجل، وفنانو شارع يجذبون بموهبتهم العامة بسرعة دون أن يكون لديهم رفاهية الفرق الملكية ولا تفرغها ودخلها.

كان الارتجال وسيلة الفرق المسرحية غير القانونية التي لا تملك وقتًا للتفكير والتحضير والتدريب، لتقديم عروضها وجني رزقها بشكل سريع

وهذا السلوك الاجتماعي، الذي أدى بالضرورة إلى ظهور مفهوم الارتجال، لم يكن محصورً بالمسرح فقط، بل تحول في زمن آخر وسياق مختلف، إلى طريقة في الاحتجاج الهوياتي، حيث لم يعد الارتجال يتضمن بُعدًا اجتماعيًا فقط، بل صار البعد الاجتماعي نفسه يشتمل على آخر سياسي ذو طابع احتجاجي سري تجلّى في موسيقى الجاز وانتشارها.

وكما أنه لم يكن للفرق الشعبية غير الرسمية في أوروبا مكان أو فرصة لتقديم عروضها سوى بشكل مرتجل للعامة، كذلك كان الحال بالنسبة لموسيقى الجاز. فنظام العبودية في أمريكا لم يكن يمنح السود وقتًا للاغتسال حتى يمنحهم وقتًا للعزف وإنتاج الموسيقى.

لذلك ظهرت موسيقى الجاز الخائفة المتوجسة الدافئة والمتوترة والسريعة والعميقة في آن. وفوق كل هذا مرتجلة. وهذا ما جعل من الارتجال سبيلاً وأداةً للاحتجاج بالنسبة للأقليات الاجتماعية وجماعات الاحتجاج السياسي.