31-ديسمبر-2023
حراك أفريقيا

يتصاعد الحراك في أفريقيا، مع موجة انقلابات تضرب القارة في الأعوام الأخيرة (الترا صوت)

تتحرك قارة أفريقيا، بشكلٍ سريع ومتتابع، وعلى مدار ثلاثة أعوام، شهدت القارة 8 انقلابات، وبين سياسي واقتصادي وأمني واجتماعي، كان عام 2023، حافلًا في أفريقيا، مع صراع على النفوذ، كان أبرز معالمه، تراجع الدور الفرنسي.

وفي حين لجأت الدول الغربية خاصة الولايات المتحدة إلى تقديم خيارات متعلقة بالتنمية، وفق مخرجات القمة الأفريقية الأمريكية التي عقدت العام الماضي. وأكد خلالها الرئيس الأمريكي جو بايدن، بأن "الولايات المتحدة ستصبح حليفًا رئيسيًا للدول الأفريقية في السنوات المقبلة". واعتبر أن "نجاح أفريقيا من نجاح الولايات المتحدة والعالم"، وذلك في رد على تزايد النفوذ الروسي في القارة، ولتحرك القارة بشكلٍ أكثر فاعلية.

كان عام 2023، هو المرحلة التي تنذر بتخلص أفريقيا، من النفوذ الاستعماري لفرنسا في القارة

من جانبها، ركزت روسيا على مجال الأمن، ونفذت برامج تدريبية للوحدات العسكرية المحلية، وعقود بيع أسلحة، وشطب للديون، وشحنات مجانية من القمح لبعض الدول الأفريقية، مع خطاب عدائي للدول الغربية، يلامس شعوب القارة، التي تعاني من التواجد الغربي، وتحديدًا الفرنسي، الذي يُنظر له كاستمرارية للتاريخ الاستعماري في القارة.

ولم تخرج تعليقات القائد السابق لمجموعة "فاغنر"، يفغيني بريغوجين، على الانقلاب العسكري في النيجر، عن هذا الإطار، إذ قال: "لنجعل روسيا أعظم في جميع القارات، وأفريقيا أكثر حرية.. لنجعل الحياة كابوسًا على داعش والقاعدة والآخرين.. ما حدث في النيجر ليس سوى كفاح شعب النيجر ضد المستعمرين الذين يحاولون فرض نمط حياتهم عليهم".

لا يمكننا أخذ تصريح بريغوجين بمعزل عن التطورات التي تشهدها أفريقيا، وهي على أعتاب طي صفحة من تاريخها المعاصر، مع فرنسا، الدولة الاستعمارية السابقة ولاحقًا، والأكثر نفوذًا في القارة، التي تواجه تحديًا غير مسبوقًا لإنهاء هذا النفوذ، وفتح صفحة جديدة لم تتضح معالمها بعد، لكن كل المؤشرات تشير إلى أن بصمات روسيا على المدى القصير والمتوسط، ستكون حاضرة في الكثير من الأحداث بالقارة الأفريقية. دون التنازل عن تطلع القارة الحقيقي، لامتلاك زمام أمورها، وتحقيق فاعلية لها.

لا يخفى أن أفريقيا باتت ساحةً للصراع، وللحروب بالوكالة، التي تخوضها الجيوش، والمجالس العسكرية، والمجموعات المسلحة، والشركات المتعددة المهام. ويأخذ هذا الصراع أبعادًا جيو استراتيجية واقتصادية، خاصةً بعد الحرب في أوكرانيا.

كما كشفت أفريقيا، عن أزمة الغذاء العالمي المترتبة عن الحرب في أوكرانيا، وموقف روسيا بمنع تصدير الحبوب ومشتقاتها من الموانئ الأوكرانية، وهو ما انعكس سلبًا على العديد من الدول في العالم، وخاصةً الأفريقية.

في خضم ذلك، لعبت البروباغندا الإعلامية الروسية، التي تعد أحد أهم أسلحة الكرملين في مواجهة خصومه على الساحة الدولية، دورًا مهمًا في تحميل الدول الغربية مسؤولية هذه الأزمة. وترافق ذلك مع موجة انقلابات عسكرية متتالية، رافقها غضب شعبي متصاعد من الوجود الغربي في عدد من الدول، وتحديدًا دول الوجود الفرنسي.

مقابل ذلك، كان هناك ترحيب بالوجود الروسي، بل دعوات لإقامة شراكة مع عدد من الدول الأفريقية، حيث رفعت الأعلام الروسية، وصور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكان لافتًا ذلك أكثر خلال المظاهرات الداعية لطرد القوات الفرنسية من دول القارة. ولا يمكن فهم ذلك، إلّا باعتبارها شكلًا من أشكال معاداة النفوذ الغربي، المتمثل في دول الاستعمار التاريخية، وتجلى على شكلٍ هذا الاحتجاج.

getty

الإرث السوفيتي

لفهم هذا التحول، علينا أن نعود للتاريخ، من أجل الوقوف أمام محطات عديدة، رسمت التحولات التي مرت بها دول القارة في علاقتها مع المستعمِر القديم، والحليف الجديد.

تاريخيًا، سجلت روسيا موقفًا متقدمًا على فرنسا، فهي لا تملك ماضيًا استعماريًا في القارة، بل دعمت عبر الاتحاد السوفياتي سابقًا، حركات التحرر الأفريقية في كفاحها من أجل التخلص من الاستعمار الغربي. وساهم هذا الدعم في إنهاء الوجود الاستعماري في العديد من البلدان الأفريقية، في نهايات الخمسينات وبدايات ستينات القرن الماضي، خلال فترة الحرب الباردة.

واستمر الدعم السوفيتي في إطار بعثات مدنية وعسكرية، ضمن اتفاقيات عُقدت مع عدد من الدول الأفريقية التي تخلصت من نير الاستعمار.

هذا الإرث التاريخي، هو ما تستند عليه، روسيا اليوم لمواجهة النفوذ الفرنسي، وقد ساعد ذلك في كسب ود الشعوب الأفريقية، في ظل تنامي العداء للوجود الفرنسي في القارة.

وبينما اتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، روسيا بأنها "قوة لزعزعة استقرار أفريقيا عبر مليشيات خاصة تنكل بالمدنيين"، أكد الكرملين، أن "روسيا تنسج علاقات ودية، بناءة مع الدول الأفريقية مبنيّة على الاحترام المتبادل".

القمة الروسية الأفريقية

كان المنتدى الاقتصادي والإنساني "روسيا- أفريقيا"، الذي عقد في تموز/يوليو الماضي بمدينة سان بطرسبورغ، فرصةً لأن تذكر مجموعة من الرؤساء الأفارقة  بالإرث السابق، وإسهامات الاتحاد السوفيتي، في تحرير شعوب القارة من الاستعمار.

وتعزيزًا لهذه العلاقات التاريخية من الصداقة والتعاون. ألغت روسيا ديون الدول الأفريقية التي تزيد قيمتها عن 20 مليار دولار، كما قدمت مساعدات بقيمة وصلت إلى 1.5 مليار روبل لمحاربة الأوبئة في الدول الأفريقية.

كما أعلنت موسكو تعويض الحبوب الأوكرانية التي كانت تصدر إلى أفريقيا، من خلال تصدير ما بين 25 و50 ألف طن مجانًا إلى ست دول أفريقية، وهي بوركينا فاسو، وزيمبابوي، ومالي، والصومال، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وإريتريا.

ولإدراك روسيا، أهمية القارة الأفريقية، في صراعهم الجيو سياسي مع الدول الغربية. وقعت روسيا خلال المنتدى الاقتصادي والإنساني "روسيا- أفريقيا"، على العديد من الاتفاقيات مع الدول الأفريقية، اعتبرها العديد مساهمة في بناء تحالف استراتيجي روسي أفريقي. كان أبرزها عقد اتفاقيات عسكرية وأمنية مع 40 دولة أفريقية من أصل 52 دولة. كما سعت موسكو إلى رفع الشراكة مع الدول الأفريقية في قطاعات الطاقة والزراعة والتجارة.

وسبق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن كشف أن حجم التبادل التجاري بين روسيا وأفريقيا، قد بلغ 18 مليار دولار في عام 2022، وأشار إلى أن أكثر من 50% من الإمدادات الروسية إلى أفريقيا، هي سيارات، ومعدات، وكيماويات، ومواد غذائية.

وشدد الرئيس الروسي، على أن الشركات الروسية منفتحة على مساعدة الدول الأفريقية في مجالات التكنولوجيا، بالإضافة لزيادة التعاون الثقافي والرياضي. ولدى موسكو خطة عمل مع أفريقيا حتى عام 2026، تهدف لزيادة التبادل التجاري، وتدعيم البنية التحتية في عدد من دول القارة.

getty

فاغنر لصدارة المشهد

لكن الأمور لا تقاس على هذا المنحنى، فالدعم الروسي الرسمي، يقابله دور غير معلن، وإن كان محوريًا، ساهمت فيه الشركات الروسية الخاصة لتثبيت الوجود الروسي في القارة.

كان قرار الكرملين، بأن لا يظهر كطرف مباشر في تأجيج الصراع بعدد من الدول الأفريقية التي تعاني من عدم استقرار سياسي، ونشاط كبير للحركات الإسلامية المتشددة والانفصالية، لكنه أوكل هذه المهمة للشركات الروسية الأمنية الخاصة، ولعبت شركة "فاغنر" الدور الأبرز في هذا المجال، عبر ظهورها القوي في عدد من بؤر التوتر، مثل ليبيا، والسودان، وأفريقيا الوسطى، ومالي، وموزمبيق، وحديث عن دور غير معلن في بوركينا فاسو والنيجر.

ووقعت الشركة الروسية الخاصة، اتفاقات أمنية مع عدد من الدول الأفريقية، قدمت عبرها دعمًا لوجستيًا واستخباريًا وعسكريًا. فقد ساهمت "فاغنر" في مساعدة حكومة جمهورية أفريقيا الوسطى، في بسط سيطرتها على معظم أرجاء البلاد، بعد ما كانت حركات التمرد تسيطر على أجزاء واسعة بما فيها مناطق من العاصمة بانغي.

في حين قاتلت المجموعة الروسية الخاصة إلى جانب المجلس العسكري في مالي، المجموعات الإسلامية المتشددة، وحركات الطوارڨ في شمال مالي.

ورافق انغماس "فاغنر" في الصراع، مجازر واسعة ارتكبت في تلك المناطق. واتهم تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، عناصر "فاغنر"، في جمهورية أفريقيا الوسطى، بارتكاب أعمال قتل وتعذيب بحق المدنيين منذ العام 2019.

وفي تقريرٍ آخر للمنظمة الحقوقية، صدر العام الماضي، جاء فيه، أن القوات المالية والمرتزقة الروس قاموا بتصفية حوالي 300 رجل خلال 5 أيام في  قرية مورا بمنطقة موبتي الواقعة شمال البلاد، وتعدّ قاعدةً لنشاط الجماعات الإسلامية المتشددة المرتبطة بتنظيم "القاعدة"، التي يمتد نشاطها إلى دول منطقة الساحل، خصوصًا بوركينا فاسو، والنيجر.

ووفقًا لمعهد "مشروع بيانات الأحداث ومواقع النزاع المسلح"، وهو منظمة دولية غير ربحية تتعقب العنف في جميع أنحاء العالم، فإن تواجد "فاغنر" في مالي "ينطوي على فظائع جماعية وتعذيب وإعدامات بإجراءات موجزة".

ورغم اتهامها بارتكاب فظائع ضد حقوق الإنسان، إلا أن النجاحات التي حققتها "فاغنر" ساهمت في الحد من نفوذ الحركات المسلحة، في الدول التي تعتبر مناطق نفوذ لفرنسا، وهو ما شجع حكوماتها على الاستغناء عن الوجود الفرنسي في أراضيها، وتعزيز العلاقة مع "فاغنر"، وهو ما جرى في جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي بوركينا فاسو، التي شهدت انسحابًا متتابعًا للقوات الفرنسية.

شبكة النهب "فرانس – أفريك"

يرى المراقبون أن فرنسا تتحمل مسؤولية تصاعد العداء تجاهها في أفريقيا، بسبب استنزافها مقدرات، والثروات الطبيعية للدول الأفريقية.

 وهذا العداء الحالي، هو نتاج لمسار طويل لسياسة النهب الفرنسية، عبر اتفاقيات وقعها الحكومة الفرنسية مع الحكومات الأفريقية في المراحل الأولى من الاستقلال، خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي.

وتتقاطع خيوط رسم هذه السياسة عند عراب العلاقات الفرنسية الأفريقية، رجل الأعمال جاك فوكار، صديق الزعيم الفرنسي شارل ديغول، الذي استدعاه ليتولى منصب كبير مستشاري الحكومة الفرنسية، لترتيب العلاقة مع الدول الأفريقية، حيث خطط ديغول لبقاء النفوذ الفرنسي بالقارة الأفريقية للاستفادة من مقدراتها.

ولعب نفوذ فوكار في أفريقيا، دورًا مهما ليتحكم بالمشهد في الدول التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي، عبر إقامة سلسلة من اتفاقيات التعاون، شملت بنودًا غير معلن عنها.

كما ضمنت تلك الاتفاقيات إنشاء عدد من القواعد العسكرية لحماية المصالح الفرنسية، وقد شكلت القوات العسكرية الفرنسية العمود الفقري لبقاء النفوذ الفرنسي في القارة. وساهم فوكار في بناء شبكة واسعة من العلاقات الشخصية والعائلية بين القادة الفرنسيين والأفارقة.

وكانت فكرة واحدة تحركه، وهي: "للسيطرة على بلد، يكفي فقط التحكم في الشخص الذي يملك كل السلطات".

ومن خلال هذه الفكرة أسس فوكار شبكة مشبوهة قوية حملت اسم "فرانس- أفريك"، وهي شبكة متداخلة من مصالح تجارية وعسكرية وسياسية فرنسية، مترابطة مع مصالح بعض النخب السياسية الأفريقية، بالإضافة لرجال الأعمال وشخصيات بارزة على الصعيد المحلي. واستطاع فوكار، أن يعين ويقيل رؤساء دول وحكومات أفريقية، بما يتماشى مع المصالح الفرنسية.

وساعد تحكمه بالموارد البشرية والمالية الكبيرة، في أن يكون صاحب الكلمة الفصل داخل الأروقة الدبلوماسية السرية الفرنسية في أفريقيا.

ومن خلال "فرانس أفريك"، استفادت فرنسا من تدفق المواد الخام الإستراتيجية من القارة (النفط واليورانيوم الذهب، الألماس). كما أصبحت هذه الدول سوقًا مفتوحة للواردات وعقود الشركات الفرنسية، التي عملت في مجالات عدة، تبدأ من الخدمات الأمنية وشركات الأسلحة، مرورًا بشركات الأدوية والخدمات الصحة، وليس انتهاءً بالشركات الزراعية والنقل والطاقة، معتمدة في ذلك على التسهيلات التي تقدمها شبكة ضخمة من العلاقات ومستشارين يعملون ضمن شبكة "فرانس-أفريك".

لكن الأهم كان سيطرة فرنسا على العملة النقدية في وسط وغرب أفريقيا والمعروفة باسم الفرنك الأفريقي (CFA)، وهو نظام مالي تخضع بموجبه 14 دولة أفريقية، من بينها 12 مستعمرة فرنسية سابقة، للنظام المصرفي الفرنسي، من خلال اعتماد عملة موحدة مرتبطة بالعملة الفرنسية. وبهذه الطريقة ضمنت باريس عشرات المليارات المودعة في بنوكها، ساهمت في تمويل العجز بموازنتها. حيث وضعت هذه الدول قرابة 70% من احتياطاتها النقدية من العملات الأجنبية في الخزينة الفرنسية.

وظل فوكار لعقود عدة متحكمًا في المشهد السياسي والاقتصادي في أفريقيا، وكان بمثابة الرجل القابض على خيوط اللعبة، وفق ما تقتضيه المصالح الفرنسية بأفريقيا. وبقيت هذه السياسة التي رسمها فوكار، هي التي تدير بها باريس علاقتها مع العواصم الأفريقية، حتى بعد وفاته.

getty

ما بعد شبكة "فرانس- أفريك"

ساهمت هذه السياسة، في تحريك معارضة قوية داخل الدول الأفريقية، وحتى داخل فرنسا، بسبب السمعة السيئة التي تركتها، ودفعت بالرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند إلى التصريح في بدايات حكمه، بأن "عهد فرانس أفريك قد ولى بلا رجعة"، إلا أن هذا التصريح، والخطاب الجديد حول تعزيز العلاقات مع أفريقيا، لم يقترن بخطوات عملية لتصحيح ذلك مسار.

وفي عهد الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، تم إعادة إنتاج نفس الخطاب، لكن دون إدانة لتلك المرحلة أو تحمل للمسؤولية، ولعب الرئيس الفرنسي على عامل الوقت، متوهمًا أن الزمن كفيل بنسيان تلك الحقبة.

صعود الضباط الشباب

تغير الوضع في أفريقيا، وأصبح الخطاب المناهض والعدائي لفرنسا يتصدر المشهد الأفريقي، وقادت النخب السياسية والمدنية حراكًا رافضًا للوجود الفرنسي. ترافق ذلك مع سلسلة من الانقلابات قادها ضباط شباب أطاحوا بأنظمة تعتبر الساحة الخلفية لفرنسا.

ففي مالي الغارقة في صراع مسلح مع الحركات الإسلامية المتشددة التي تنشط في شمال البلاد، أطاحت مجموعة من الضباط العسكريين في آب/أغسطس 2020، بقيادة العقيد أسيمي غويتا، بالرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا.

ليختلف قادة الانقلاب مع الرئيس المؤقت الجنرال المتقاعد باه نداو، ورتبوا انقلابًا ثانيًا، في أيار/مايو 2021، وعُيّن العقيد غويتا، الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس المؤقت، رئيسًا للبلاد.

وفي غينيا، أطاح العقيد مامادي دومبويا، في أيلول/سبتمبر 2021 بنظام الرئيس ألفا كوندي، الغارق في الفساد، وسوء الإدارة الاقتصادية. متوعدًا بنقل السلطة للمدنيين، وحدد الفترة الانتقالية بـ 39 شهرًا. وفي خطاب وجهه للأمة، ردد مقولة الرئيس الغاني الراحل جيري رولينغز، حين استولى على السلطة في عام 1979: "إذا سُحق الشعب من قبل نخبه، عندها الأمر متروك للجيش لمنح الشعب حريته".

وفي بوركينا فاسو، أطاح ضباط من الجيش بحكم الرئيس روك كابوري، واتهموه بالفشل في مواجهة المسلحين الإسلاميين.

وتعهد قائد الانقلاب العقيد بول هنري داميبا باستعادة الأمن، لكن الهجمات تزايدت وأثرت سلبًا على الجيش، مما أدى إلى وقوع انقلاب ثانٍ في أيلول/سبتمبر من العام نفسه، حيث تم تشكيل مجلسًا عسكريًا بقيادة النقيب إبراهيم تراوري، أصغر رئيس في العالم، والذي تولى زمام السلطة.

وفي 26 تموز/يوليو الماضي، أطاح ضباط في جيش النيجر بالرئيس المنتخب محمد بازوم، وأعلن عن تنصيب قائد قوات الحرس الرئاسي الجنرال عبد الرحمن تياني، رئيسًا للمجلس العسكري. وسط تصاعد للتوتر في بلد يظهر فيه النشاط المتزايد للحركات الإسلامية المتشددة.

واعتبرت موجة الانقلابات علامة على طي صفحة الوجود الفرنسي في أفريقيا، والبحث عن حليف استراتيجي آخر، حيث كسبت "فاغنر" ثقة المجالس العسكرية الجديدة في دول الساحل.

getty

الانسحاب الفرنسي

وفي آب/أغسطس 2022، وبعد طلب المجلس العسكري في مالي، إنهاء التواجد الفرنسي وإلغاء المعاهدات العسكرية بين البلدين، أعلنت الحكومة الفرنسية نهاية مهمة القوات الفرنسية ضمن عملية "برخان"، المستمرة منذ تسعة أعوام لمكافحة التنظيمات المرتبطة بالقاعدة وداعش في منطقة الساحل الأفريقي.

وبررت فرنسا، اتخاذها هذا القرار، برفضها التعامل مع سلطة انقلابية غير شرعية، واعتراضًا على النشاط المتزايد لعناصر "فاغنر" في مالي. وكان هذا القرار نقطة انعطاف للوجود الفرنسي في أفريقيا، التي تعتبر مالي منطقة نفوذ جيوسياسي مهم، فكانت بمثابة اللمسة التي حركت أحجار الدومينو تباعًا.

وبعد الانسحاب من مالي، غادر آخر جندي فرنسي، جمهورية أفريقيا الوسطى في كانون أول/ديسمبر 2022، وبالتزامن مع ذلك، قامت بانغي بإنهاء عمادة السلك الدبلوماسي الممنوحة حصريًا للسفير الفرنسي، في خطوة تؤكد التوجه المتزايد لحكومة أفريقيا الوسطى نحو روسيا.

ومنحت عمادة السلك الدبلوماسي في جمهورية أفريقيا الوسطى للسفير الفرنسي منذ استقلال البلاد عن فرنسا في آب/أغسطس 1960.

وفي بوركينا فاسو، طلب المجلس العسكري من القوات الفرنسية مغادرة البلاد، وترافق الطلب مع مظاهرات، استمرت عدة أشهر، طالبت برحيل الجنود الفرنسيين، حيث اتهمت فرنسا بدعم الرئيس السابق، وبالتقصير في مواجهة المجموعات المتشددة، وأحيانًا بالتواطؤ معها.

أما النيجر، أبرز معاقل النفوذ الفرنسي، فقد هددت فرنسا من خلفها مجموعة "إيكواس"، بالتدخل العسكري لإعادة نظام محمد بازوم، وفي حين كانت المؤشرات توحي بعمل عسكري قادم ضد المجلس العسكري الحاكم، انقلب المشهد رأسًا على عقب، فبعد رفض فرنسا الاستجابة لطلب المجلس العسكري بإنهاء تواجدها الدبلوماسي والعسكري في النيجر، أعلنت عودة سفيرها في باريس، وإعادة انتشار قواتها، وهي العملية التي انتهت هذا الشهر، لتطوي فرنسا حقبة كاملة من التواجد في النيجر. 

ويبقى تواجد فرنسا في الساحل، مقتصرًا على دولة تشاد، التي يتواجد فيها قرابة الألف جندي فرنسي، ويُعدّ هذا التواجد هو الأقدم لفرنسا في القارة الأفريقية الذي لا يزال نشطًا، حيث كانت القاعدة الجوية في أنجامينا، مركزًا للقيادة لعملية "برخان".

وتشهد البلاد صراعًا مسلحًا بين الحكومة المدعومة من قوى الغرب، وحركات التمرد المدعومة من "فاغنر"، وعلى رأسها حركة "فاكت"، المسؤولة عن قتل الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي في معارك شمال البلاد. وهو ما يؤشر إلى أن هذا البلد سيكون على المدى القصير أو المتوسط، المحطة القادمة لإنهاء الوجود الفرنسي في الساحل.

وقد شهدت العاصمة التشادية أنجامينا، في الفترة الماضية احتجاجات تطالب بخروج القوات الفرنسية من البلاد، وكان لافتًا خلال الاحتجاجات رفع المحتجين للعلم الروسي إلى جانب العلم التشادي، وترديدهم شعارات معادية لفرنسا، ومطالبة بدعم روسي لإسقاط نظام الرئيس محمد إدريس دبي.

وقد كشف ما حدث في النيجر، مدى أزمة فرنسا وعجزها في التعاطي مع التطورات في المنطقة. ولم تفلح استراتيجيات فرنسا في إعادة ضبط علاقتها الصعبة والمثقلة بالإرث الاستعماري مع الدول الأفريقية، في احتواء مشاعر الغضب المتنامية ضدها هناك.

وفي الغابون، التي حكمتها عائلة بانغو لمدة 40 عامًا متتالية، بدعم فرنسي ثابت، قاد قائد الحرس الجمهوري الجنرال بريس أوليغي نغيما، انقلابًا عسكريًا في آب/أغسطس الماضي، مع إلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية التي جاءت نتائجها لصالح علي بونغو. وشكل انقلاب الغابون، 8 انقلاب في المستعمرات الفرنسية السابقة خلال السنوات الثلاث الأخيرة.

getty

وبينما لم تتضح ولاءات قادة المجلس العسكري الجديد في الغابون، إلا أن قادته بينوا أنهم سيحافظون على جميع التزامات النظام المعزول، على الأقل في الوقت الحالي. وهو ما يعني أن النفوذ الفرنسي سيبقى قائمًا في البلاد.

لكن مع انحسار النفوذ الفرنسي في القارة، فإن باريس أمام اختبار حاسم، فهل تنجح في احتواء تداعيات انتكاساتها المتتالية؟  

في حين تشير المؤشرات إلى أن رقعة العداء المتنامية ضد فرنسا في الساحل، مرشحة للانتقال إلى غرب أفريقيا. أي إلى السنغال التي يتواجد بها 350 جنديًا فرنسيًا منذ العام 2013، في إطار اتفاقية التعاون العسكري بين باريس وداكار، ومن خلالها يتم تدريب الجنود السنغاليين، على مهام حفظ الأمن.  

وتشهد نشاطًا يقوده نشطاء، ومدونون والصحافيون على شبكات التواصل الاجتماعي، حيث قادوا حملات تدعو لطرد فرنسا من البلاد، واتهموا الرئيس ماكي سال بتلقي تعليمات من "سيده الفرنسي ماكرون".

في حين، درج المعارض الشرس عثمان سونكو، المعتقل بتهم التآمر على الدولة، والذي أدى توقيفه إلى خروج مظاهرات واسعة اصطدمت مع قوى الأمن السينغالي، أدت لسقوط قتلى، على تقديم خطاب لا يخفي مناهضة فرنسا.

المعركة مستمرة

ما يطلق عليها موجة التحرر الأفريقية الثانية، التي يقودها ضباط شباب، ترتكز على خطاب التحرر من الهيمنة الاستعمارية، وهو ما وجدت فيه الشعوب الأفريقية طوقًا للنجاة من مسار طويل، بني على سياسة نهب مقدراتها وخيراتها، وأثقلت كاهلها بأنظمة ديكتاتورية فاسدة. لكن الوقائع على الأرض تذهب في اتجاه آخر، فالوعود التي قدمها قادة المجالس العسكرية بنقل السلطة للمدنيين وإجراء انتخابات ديمقراطية، أصبحت بعيدة المنال، وذلك بعد تنصلهم من تلك الالتزامات بحجة أن الانتخابات ليست أولوية في الفترة الراهنة.

تتصارع عدة دول في العالم، من أجل مد نفوذها في أفريقيا، مع نهاية النفوذ الاستعماري الفرنسي

يتقاطع ذلك مع تمدد "فاغنر" في القارة، لكن الشركة الروسية الخاصة لا تستند للإرث السوفيتي في القارة، فخدماتها يقابلها سيطرة مطلقة على مناجم تعدين الذهب والماس، وغابات الخشب، وحقول النفط، واستثمارات زراعية وصناعية، والآلاف من المرتزقة في حروب بالوكالة.

المعركة اليوم من أجل تحرير أفريقيا من الاستعمار لا زالت مستمرة، ولم تنتهِ بعد، لا يزال البحث جاريًا عن قائد بحجم توماس سانكارا، يعي أن حرية أفريقيا، تعتمد على برنامج طموح، يبدأ بامتلاك القارة لقرارها المستقبل بعيدًا عن صراعات القوى الكبرى، والاصطفاف إلى جانب أحدها.