1

ليس في تاريخ الطبري، أو عند غيره من المؤرخين، ما يؤكد لنا موت بلوزار. ومعظم التحقيقات التي تجمع على أخباره تنسب عادة إلى أزمنة وعصور مختلفة، دون أن تضع حدودًا ثابتة للفترة التي عاش خلالها. وقد جمع أحد المستشرقين جميع الروايات المنقولة عن كتب المؤرخين، والتي تتعلق بحياة بلوزار فوجد أنها تمتد من انهيار سدّ مأرب حتى الحرب الأهلية في لبنان. ولعلّ إخفاء موت بلوزار من الكتب والرّسائل التاريخية هو الّذي أتاح إشاعة أخباره ونقل ملامح شخصيّته على امتداد هذه الفترة الطويلة. ولكن هذه الآثار أو الملامح لا تفضي، بأيّة حال، إلى موت محقق. بل هي تضعنا أمام أحد احتمالين.

الأول: أن يكون بلوزار قد امتنع عن الموت لأسباب سياسية.

الثاني: أن يكون بلوزار قد مات قتلًا وأنّ المؤرخين لجأوا إلى طمس هذه الحقيقة لإخفاء دورهم النافذ في قتله.

2

ولكن ما علاقة كل هذا بالحادثة التي وقعت بالقرب من دکان "کاف". بلوزار المدرس العادي في ثانوية رأس المرج لا يمت بصلة إلى بلوزار آخر. والباعة الصغار لا يتذكرون التاريخ. بعد حادثة الانفجار بدا كلّ شيء وكأنّه يحدثُ للمرّة الأولى. أراد بلوزار أن يتخلّص من الضّجر وقلّة المعاش. أن يعيد حاسّة الاتجاه إلى رأسه السّاخن. امتنع في اليوم الأوّل عن الذّهاب إلى المدرسة. وقرر أن يتعرف على التلميذات خارج أوقات الدوام وأوقات وزارة التربية. من المستحيل أن نتعرف على الآخرين إذا لم نجدهم في أوقاتنا. في الأوقات التي تمتد بين الناس دون سلطة. السلطة تمنع الوقت وتجعلنا مسوّرين كقلاع محاصرة.

أخذ بلوزار يتسرب من ملامحه الضيّقة. الأصوات التي تبددت تتجمع ثانية في أذنيه. صرير العربات ورفيف زوجته الحاد كقشرة الجليد.

الأصوات تتدفق ثانية إلى الساحة العامة. 

3

في الوثائق التي وقع عليها المتظاهرون أثناء اقتحامهم ويبدو مبنى الوزارة عبارة واحدة تتعلق بحياة بلوزار. كتبت هذه العبارة في أسفل أحد التقارير بعناية فائقة. ويمكن لنا أن نجزم، بسبب هذه العناية، أنها أضيفت إلى التقرير في وقت ملائم، وأن الدولة كانت لا تزال قائمة حتى ذلك الوقت.

ولعل صاحب التقرير، على الرغم من أنه كان يقوم بعمل اختياري وبملء إرادته -كما يظهر من نوع الحبر والورق وطريقة الكتابة- كان خائفًا، تورط إلى حد كبير، ويحاول أن يسترد خسارته بمثل هذا الاهتمام.

لعله لم ير بلوزار مرة واحدة في حياته. ولكنه كان يقوم بأي تمرين لكي يستعيد توازنه  ينهض في الصباح ويتناول قهوته. تصيبه هذه الدوخة بعد السيجارة الأولى، فينتابه خوف شديد من النهار، ويتذكر فشله. حين كتب هذه العبارة كان يريد أن يقطع ذاكرته. وتستطيع أن ترى هذا من المساحة البيضاء قبل أن يبدأ. أو بعد الكلمة الأخيرة. ولكن الكلام لا يقول شيئًا. وثمة معنى يظل غائبًا. 

4

بلوزار يضحك.

يقرأ عن نفسه في الكتب والصحف اليومية. يتحدث بين الناس كيف أن بلوزار يأتي إليه ويحدثه عن الحرب. الحرب تقتل الخوف، وتقتل الجوع: تقتل الحرب أيضًا. يتكاثر المحاربون حول بلوزار وتبدأ الحرب من جديد.

"مقتطف من حديث رجل يضع نظارتين رماديتين ويجلس بين امرأتين في زاوية المقهى الذي كان يتردد إليه بلوزار خلال فترة تدريسه في ثانوية رأس المرج".

5

إذا سألت أول رجل تشاهده في المدينة عن بلوزار سوف يقلب شفتيه مستغربًا ويتابع طريقه.

وإذا قرأت شيئًا عن بلوزار فسوف تقع على بعض الصور والأخبار الغامضة.

ثمة حنين ينتابك للتحقّق من بلوزار. ولكنّ القصة التي تكاد تنتهي في كلّ مرة، لا تزال تحتاج إلى إضافات كثيرة.