وأخيرًا حلت كل مشاكلي يا أحباب، البارحة خطرت على بالي الفكرة العجيبة التي ستنقلني من وضعي البائس الذي أعيشه إلى راحة البال. تنحصر فكرتي بأن أصبح مواطنًا كاملًا مكملًا كي أتخطى أي صعوبة قد تعترضني في طريق هجرتي اللا شرعية نحو عالم الكامبات وجوازات السفر الأوروبية، التي نحلم باقتنائها في جيوبنا الداخلية. 

هكذا فقد بدأت يا أصحاب بتفصيل بعض الزعانف والغلاصم على مقاس الحجم المتبقي من جسدي المنهك، ثم صنعت جناحين قويين إسوةً بجدنا عباس بن فرناس. نعم لقد قررت أن أكون كائنًا جديدًا، برمائيًا وسمائيًا، كي أجتاز حدود الخوف وبحار الموت، ولا يهمني أن ينتظرني أوروبي ما في محطة قطار أو مطار كي يقدم الورد الجوري أو الشوكولا التي نسيت طعمها، فالنوم في سرير آمن بات غايتي. 

حزمت كل ما استطعت من أحزان، وبقجة من الذكريات وطرت غير عابئ بأي رادار أو صواريخ تعبر الأجواء. وبينما أطير فوق قرية غريبة البيوت، في دولة غريبة الجبال والوديان، شعرت بالإعياء، وهبطت قاصدًا شربة من ماء، وبعد أن شربتُ حاجتي، نظرت قربي فرأيت طائر اللقلق يحوم قرب موقعي كسائح انتابه الفضول، وأردت أن أعاود المسير قبل أن يهبط الظلام، فارتطمت قدمي بقنينة قديمة غريبة الشكل، عالجتها بمخلبي وفتحتها، فوجدت فيها وريقة صفراء، رسالة عتيقة، غير أن  خطها مفهوم، وإليكم المكتوب: 

"أمي وأبي.. اشتقت لكما جدًا، كيف حالكما؟ أنا هنا بخير، منذ أن غادرتكم حزينًا، أجول قرب كل بحيرة كتائه عن المكان والزمان، وجدت كهفًا جيدًا للعيش في طريقي، فسكنته وبقيت فيه 

صامتًا كالصخر، نصحتُ كل الأصدقاء بالبقاء غير أنهم تابعوا الطريق. أجمع الزهور كل يوم كي أظن أنني سعيد. الشمس تطل على كهفي حتى الغروب وكهفي يطل على بحر غريب اللون. تزورني النسور، علموني لغتهم الصغبة ودربوني على استخدامها، فقدرت أن أستميل قلب بومة صهباء وربما تقبل أن نتزوج قريبًا.

وهي تهديكم السلام ولكنها نائمة الآن، فأنا أكتب لكم صباحًا وأخشى أن أوقظها، لأنها سهرتْ ليلًا واصطادت لي فأرين لنتعشى بهما. هل صحيح ماقاله لي صاحبي النسر إن الأمور تزداد سوءًا عندكم، والأسعار ترتفع، والناس تخاف أن تزور بعضها البعض؟ أنا قلق عليكم جدًا، وأتمنى أن توافقوا على الرحيل في زيارة طويلة إلى كهفي الجميل، ولا داعي لأن تقلقوا، لن تثقلوا علينا، فقد حفرت نفقًا لكم وفرشته بالريش والأوراق، كي تهنؤوا في نومكم.

ولتعلموا بأنني هنا أستيقظ كل يوم نشيطًا، لا أسمع ضجيجًا أو أنتظر فاتورة أو أتوقع مصيبة، الحياة هنا مسالمة للغاية. تعلمت أن أرسم على الجدران بالفحم، البارحة رسمت صورة أخي الذي دهسته سيارة غير متقيدة بالسرعة، وصورة ابن عمي الذي مات في المعتقل تحت التعذيب.

شيء واحد فقط يثير حفيظتي أحيانًا ولا أجد له حلًا، إنه صوت نقاط المياه الساقطة كأنها تدلف من حنفية بيتنا التي لا أظن أنه جرى تصليحها حتى الآن. شعري الآن لا يخضع للموضة، وسلوكي لا يخضع لانتقادات أو لسياسة ظالمة، وخيالي لا يحد. رجل دين ونزواتي لا تأسرها عادات، وشهواتي لا يعتقلها جهل. 

وماذا أيضًا يا أهلي، هل ما زالت ثيابي في خزانتي؟ تذكرتُ أنني نسيت أن أحضر قلمًا معي بعد أن قررت أن أرتحل باحثًا عن حريتي، لكنني صنعت قلمًا من فحمة عجوز شذبتها بحجر. أرجوكم أن تأكلوا وتشربوا جيدًا، قد أرسل لكم قليلًا من القمح الذي زرعته بنفسي لو وافق العصفور.

كاكا كيوووو.. وتعني هذه الكلمة بلغة النسور "أحبكم جدًا".

ملاحظة أخيرة: بعثت هذه الرسالة في قارورة عسى أن يجدها عابر سبيل فيوصلها لكم، فهنا لا يوجد سعاة بريد ولا طرقات ولا خرائط. وعندما طلبت من صديقي النسر أن يحملها لكم خاف فهو كما يقول يخشى أن يصاب بالعيارات النارية التي تملأ الأجواء عندكم.

المرسل: ابنكم ساكن الكهوف".

 

قرأت الرسالة ثم أعدتها للقارورة بما أني لا أعرف ساكن الكهف أو أهله أو حتى بلده، وطرت في طريق نحو أوروبا التي أنشد. وبعد أن وصلت قدمت كل أوراقي لهيئة التحقيق كي أحصل على قرار لإقامتي في دولة اللجوء. 

الاسم: مواطن عربي سوري.

العمر: ما يكفي لكي أموت.

المهنة السابقة: باحث دائم عن عمل.

العنوان: ربما إن لم تقبلوا اللجوء في بلادكم سأسكن الكهوف.

المهارات: التحمل، الصبر، الغوص والسباحة.

الشهادات: "لا اله إلا الله محمد رسول الله"، و"باسم الأب والابن والروح القدس"، و"شهادة الوفاة".

اللغات: اللغة العربية، لغة الأسماك، لغة الطيور.

وبعد أن فرزت في أحد الكامبات، وخلعت عني كل ما لبست من زعانف وأجنحة، تذكرت ما قاله اللقلق من نصائح كثيرة، قبل أن أترك القارورة المذكورة. وإليكم حوارنا القصير: 

- لماذا تبكي؟

- قرأت رسالة من شخص يسكن كهفًا أرسلها لذويه، من دون عنوان.

- ما جنسك أنت؟ لم أر في حياتي كائنًا يشبهك؟ أنت تشبه البني آدم، لكنك تمتلك جناحين، ولك زعانف قوية ولست بسمكة.

- (أجيبه بهدوء) أنا انسان سوري.

- هل هذا جنس جديد؟

- على العكس هو قديم جدًا.

- أما أنا فاسمي مالك الحزين.

- أما أنا فلست مالكًا سوى للقهر، ومثلك يا صديقي حزين جدًا.