بأسلوبه المتفرّد ومخياله الرقيق يحلّق بنا فدريكو غارثيّا لوركا إلى جذور "موسيقى الفلامنكو" في ديوانه "الأغاني العميقة"، الذي كتبه عام 1921، ليكون من أوائل الكتب الشعريّة التي كتبها، لكنّ الديوان لم ينشر إلّا في عام 1931، أي قبل خمس سنواتٍ من إعدام الشاعر الغرناطي الذي ولد ميتًا ثم عاش مقتولًا على يد الفاشيّة رميًا بالرصاص، لتجعل منه - دونما قصد - منارة للشعراء وقبلةً للكتًاب في سائر الأقطاب.

الغناء العميق

قام لوركا بعمر الثالثة والعشرين بكتابة هذا الديوان في إطار مشروع تأسيس مسابقة للغناء العميق، أو ما يعرف بالإسبانية بمصطلح "Cante jondo" بالتعاون مع الموسيقي الأندلسي، عاشق غرناطة، مانويل دي فايّا، ووجوه بارزة أخرى. وكانت فكرة المشروع هي إنقاذ الفلامنكو الذي يعبّر الغناء العميق عن أكثر تجليّاته أصالةً، والحفاظ على القيم الحيّة داخل هذا الفن بعد دخول أنماط موسيقيّة أخرى باتت تشوّه ملامحه، وذلك عن طريق استكشاف مواهب مغمورة تتقن غناء ورقص وعزف موسيقى الفلامينكو ولا سيما في الأرياف.

كتب لوركا "الأغاني العميقة" وفاء لتراث الفلامنكو، وللحفاظ على روح هذا الفن

في عشرينات القرن العشرين، انتشرت في إسبانيا لأجل هذا الغرض نفسه مقاهٍ غنائيّة في مدريد وبرشلونة ومقاطعة أندلثيّا لحفظ تراث الفلامنكو (الموسيقى العميقة) من الزوال، عبر ترديد الأغاني وتحفيظها للناس في مقاهٍ تقدّم الأطعمة والمشروبات للزبائن إلى جانب العروض الموسيقيّة الراقصة.

اقرأ/ي أيضًا: ماريانا بينيدا.. المرأة التي جالت في الطرق السرية لغارسيا لوركا

كان لوركا ودي فايّا حريصين على أن تكون في غرناطة مقاه رائدة من هذا النوع عبر التوعية والدعاية، حيث إنّ لوركا نشر ديوان "الأغاني العميقة" بعد محاضرة ألقاها في مركز الفنون في مدينته غرناطة أطلق فيها اعتقاده بأنّ الغناء العميق موجود في إسبانيا قبل أي فنّ آخر في أوروبا، وحتّى قبل موسيقى الفلامنكو حيث تعود جذور الغناء العميق إلى موسيقى بدائيّة قادمة من الهند، إلّا أنّه لم يكتمل مضمونًا إلّا بعد قدوم قبائل الغجر الرحّالة إلى شبه الجزيرة الإيبيريّة قادمين من الشرق، واختلاطهم بالعرب الذين شاركوهم بعد سقوط الأندلس في حالة التمييز العنصري التي عاناها الشعبان، والتي دفعتهما لإثراء الفلامنكو. وعبّر عن عشقه لهذا الفن وبالأخص نصوص أغانيه التي تعتمد على صراخ الأوجاع في أصدق الحالات الانفعاليّة.

وفي ديوانه هذا يستعرض الشاعر أنماط موسيقى الفلامنكو وإيقاعاته المختلفة، دون أن ينسى التعريج على مدن الأندلس، وبالطبع دون أن يسهو عن رموز شعره التقليديّة مثل الشجرة، القمر، الغيتار، الغجريّة، الطريق، الماء، الريح وغيرها، إلى جانب الحب والموت والألم.


من ديوان "الأغاني العميقة"

كيف لا يحتوي الديوان على قصيدةٍ مخصّصةٍ للغيتار وهو أهمّ مكوّنات الفلامنكو، يرثي لوركا في هذه القصيدة الغيتار الذي يبكي وهو يجود بنغمات الفلامنكو الصّادقة.

 

الغيتار

يبدأ غيتارٌ بالنحيب

تنكسر كؤوس الفجر

يبدأ الغيتار بالنحيب

ومحالٌ إسكاته

مستحيل

يبكي وحده

كما يبكي الماء

كما تبكي الريح

فوق الثلج

يبكي ومحالٌ إسكاته

يندب ما هو بعيد

رمال الجنوب الساخنة

تشتهي زهر الكاميليا الأبيض

المساء بلا صباح

والعصفور الأول الفقيد

ملقيّ فوق غصنٍ طريّ

آهٍ أيّها الغيتار..

أيّها القلب الجريح

بحدّ خمسة سيوفٍ ماضية.

*

في قصيدتنا الثانية سيّدةٌ شاخت وعبرت بها السنون فيما لا تزال هي ترقص في شوارع إشبيلية وهي تتذكّر أيّام الصبا، وطفلاتٌ مبهمات الهويّة يُطلب منهنّ غضّ البصر عن كارمن.

 

رقص

في شوارع إشبيلية

ترقص كارمن

الأبيضُ لونُ شَعرها

وعيونها لمّاعة

اسْدِلنَ الستائر يا فتيات!

 

تلتفّ على رأسها

أفعى صفراء

وهي تحلم بالرقصات

مع عشّاقٍ من زمنٍ ولّى

اسدلنَ الستائر يا فتيات!

 

الشوارع خَوَت

إلّا من قلوبٍ أندلسيّةٍ

ظهرت من بعيدٍ تبحث

عن أشواك عتيقة

اسدلنَ الستائر يا فتيات!

*

في القصيدة الثالثة قرية من الريف الغرناطي شاهق العلو، يصف لنا لوركا فيها تفاصيل القرية دون أن يذكر اسمها أو موقعها.

 

قرية

فوق الجبل الأقرع

غُرس صليبٌ

ماءٌ سلسال

وأشجار زيتونٍ معمّرة

في الأزقّة رجالٌ

متلفّحو الوجوه

وعلى الأبراج

دوّارات رياحٍ

تدور..

وتدور خالدة

أهٍ يا أيّتها القرية الضائعة

في أندلس النحيب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ثلاثة شعراء ومرثية واحدة

أوروبا في مسرح المدينة.. لوركا وكافكا مع راشيل كوري في بيروت