كلهم ذكريات، أنا محض ذكرى كما هم، فكل الذين أعرفهم ماتوا مثلي وننتظر جميعًا أن يحين موعد دفني، كي نبكي عليهم، لكن من دون دموع، سنبكي هامسين، سيكون الهمس هو الحاضر بدلًا من الدمع، فنحن إن جهشنا بالبكاء سيعرفون أننا كاذبون وسيقطعون رؤوسنا فرحين بما أنجزوا، لكن الأحلام ستحيا وكل عبارات الموت ستدفن تحت ركام الطفولة الميتة، ماتت طفولتنا، ماتت براءتنا، مات كل شيء يذكرنا بالماضي.

لا تلاقي، رحيلٌ دق ناقوسه، أمر بالعودة لكن الطفولة الميتة لن تعود. كل طفلٍ مات أبوه تجده جالسًا في محفل الانتظار متأملًا، لكن!؟ محراب الغائبين لم يعد فيه متسعٌ لصلاة أحد، اكتظ بتراتيل الشوق ودموع الحنين.

يا له من يومٍ عصيب! ذلك اليوم الذي كنا ننتظر أحلامنا أن تطفو على السطح، سطح تلك الجثث -داخل الغد طبعًا- داخل الغد ستملأ الجثث كل المكان وكل الزمان، ولن يتسنى لنا فرصة أخيرة لنسد أنوفنا من قباحة المنظر، أو نغلق أعيننا من نتن الرائحة، في الغد كما الأمس الموازين مختلفة وكل شيءٍ مختلف.

في الغد ستحيا كل عيون الحالمين، تنام قريرة العين هانئةً بلا حضور، ولا غيابٍ، ولا رحيلٍ، ولا بقاءٍ، ولا... تيمم وجهها شطر المتألمين وتحيا بعيون الراحلين، سنكون راحلين أيضًا ولن تكون عيوننا أغنيةً لحياة حلم، سنكون تلك الجثث وتكون عيوننا ذلك الجسر البعيد الذي تغفو على سطحه قلوب المتألمين.

أدخل الروضة صباحًا، أجده كعادته ينتظرني عند باب صفه غير مالٍ من الانتظار متسائلًا: "قالتلي أمي أبوي رح يرجع، صح هذا الحكي"، أجيبه بنعم، يكمل سؤاله: "إيمتا؟؟". لا أجد إجابةً تروي شوق دموعه العطشى لصدر أبيه المنقول لقائمة الغائبين التي تتسع للملايين، دموعه التي تعرف أن صدر أبيه هي موطنها: "واللي مضيع وطن وين الوطن يلقاه"، أجيبه: "كم يوم تانيات وجاي أبوك إن شاء الله، فوت هلق على مقعدك وبس اجى أبوك هو فورًا رح يجي ع البيت إن شاء الله، لا تشيل هم يا حبيبي".

كيف له ألا يحمل الهم وأبوه مفقود منذ أكثر من ثلاثة أعوام، والحرب تدني خبر موته أكثر فأكثر. كيف له؟؟

هذا حال الكثير من الثكالى التي أعلنت الحرب وقف تنفيذ حكمهن بسبب الغياب المصحوب بالأمل، هذا حاله وكثيرٌ من الأرامل اللواتي ينتظرن الراحلين بلا عنوان، وأنى لعينٍ داميةٍ أن تكف عن الهطول... لن تكف، فكلهم ذكريات، حتى أنتِ، ذكرى خطفتي الحب ذات حربٍ وغبتي في أروقة الزمان.

 غيبي إذن، غيبي مثلهم لتدخلي تلك القائمة ولن أمل -مثل الأطفال- من الانتظار، ودموعي لن تمل من انتظار موطنها، فالشوق مازال يلهج باسمك، وما زالت القصائد تتخذ عيناك بحرًا لها، غيبي.. أشتاقكِ، لكن ليس كالمشتاقين، ففي بعض عامٍ تسلبني همومي، تغادرني محبتك، ويحدث الشرخ بيني وبينك، أجتث من الأعماق، أرمى كلحظة عشقٍ مفقودة وأبقى بلا عنوان، في بعض عام.

في بعض عامٍ أغرد لحن محبتك، أدندن نهج بلاغة عينيك، أرتل اسمك، أقبل ذكراك، وأخبئ أنفاسك لعيون التائهين، في بعض عام.. أرنو كالباقين خلف الغياب فكلنا منتظرون، ولن يعود الغائبون، ولكن الأحلام لن تغيب... .

اقرأ/ي أيضًا:

متبرجة كشجرة الميلاد

شيزوفرينيا