"كلُّ شراعٍ لم يعد إليكِ يا مخافرَ الحدود،

لا باحثًا، سدىً، عن المعنى

ولكن هربًا من المعاني السودْ".

أبحث عن فوزي كريم في ذاكرتي. أتذكّره في هذه الأبيات أو الشطور. أتذكّره حين رفع يده احتجاجًا في وقت مبكر. وقت كانت فيه سماء ثقافة العراقيين خفيضة رغم ارتفاعها المخادع منتصف الستينات.

التنوع الفني الذي أتاه فوزي كريم، في عموم مسعاه الثقافي، لم يكن وليد حماس معرفي لإغناء الذات والآخر فحسب، بل هو نوع من البحث المتواصل عن جذر المشكلة الثقافية في عالمنا العربي والعالم أيضًا

اختار، بخلاف أغلب أقرانه، ممن سبقوه وجايلوه وجاءوا بعده، اختار الوقوف على التلّ، وهي تهمة "مشينة" داخل وسط مضطرب الشعارات والرايات، والاصطفافات الثنائية في الفكر والأيديولوجيا، ويقيل عثرات الطائر على طرق سواد الناس، إذ لا عهدة للطيور بعبور الشوارع عبر خطوط العبور.

وهجا فوزي بروح الشاعر الطائر ووعيه "قارات الأوبئة" التي فتكت بالناس والأوطان.

التنوع الفني الذي أتاه فوزي كريم، في عموم مسعاه الثقافي، لم يكن وليد حماس معرفي لإغناء الذات والآخر فحسب، بل هو نوع من البحث المتواصل عن جذر المشكلة الثقافية في عالمنا العربي والعالم أيضًا، ولا عجب أن يخوض فوزي في فنون إبداعية عدة كالشعر والرسم والموسيقى والمذكرات والنقد والترجمة.

ضاق فوزي كريم بالكتابة الملفّقة التي تأسر كاتبها وتخدع قارئها بالملفوظات لا بالملموسات، ففي كتابه ثياب الإمبراطور تصدّى فوزي لأكاذيب الحداثة العربية المكرسة وجعل ذلك عنوانًا فرعيًا لكتابه مرايا الحداثة الخادعة.

ومثلما ضاق فوزي بخداع الكتاب والشعراء ضاق أيضًا بالعقائد والأيديولوجيات فهو يرى أن لكل عقيدة، عقيدة مضادة مساوية لها بالقوة ومضادة لها بالاتجاه كقانون فيزيائي معروف بشأن الفعل وردة الفعل، كما يرى أن اللاعقيدة هي ما يتيح للمثقف، إجمالًا، سعة الخيار وتدريب الحس الإنساني بالعدالة.

وإذ أشاكسه: أنت جعلت، يا صديقي، من اللاعقيدة عقيدة مضادة، على غرار سانت بيف الذي اعتمد قاعدته الذهبية في النقد: اللاقاعدة، بينما القاعدة تنوس وتنبض تحت طبقة قريبة أو بعيدة من طبقات الخطاب.

لكن فوزي الذي نأى بنفسه عن العقائد لم ينأَ عنها اجتماعيًا وعاطفيًا لأن أقرب أصدقائه إلى مزاجه الثقافي هم المثقفون اليساريون العراقيون بعامة، والشيوعيون بخاصة، وجلّ سجالاته ومجادلاته ومشاكساته كانت معهم، وإذ احتدم النقاش بيني وبينه، ذات سهرة، في بيت مضيفنا، صديقنا المشترك، زهير الجزائري، بشأن الفرنسي ميشيل فوكو لأن الحوار كان بين "عقائدي" كما كان يعدّني و"لاعقائدي" كما يعدُّ نفسه، لكنني لم أفاجأ عندما اتصل بي الجزائري ينقل لي انطباع فوزي حول جدال البارحة بأنه كان سعيدًا جدًا بمستوى الحوار المحتدم. من جانبي كان فوزي ولو يزل، أجمل المتحاورين وأكثرهم غنى.

مثلما ضاق فوزي كريم بخداع الكتاب والشعراء ضاق أيضًا بالعقائد والأيديولوجيات فهو يرى أن لكل عقيدة، عقيدة مضادة مساوية لها بالقوة ومضادة لها بالاتجاه كقانون فيزيائي معروف بشأن الفعل وردة الفعل

فوزي أحد المثقفين العراقيين المستقلين القلائل الذي كتب في صحيفة "طريق الشعب" منتصف السبعينات، في مرحلة كانت فيها قراءة تلك الجريدة، لا الكتابة فيها، دليلًا ثبوتيًا على "التهمة الخطرة" وبعد ذلك من تفاصيل فحدّث ولا حرج.

أذكر الآن حين لم تعجبه قصيدتي المنشورة في "طريق الشعب" آنذاك، والتي كتب عنها ضمن مراجعته لقصائد العدد الماضي، ولَم أعاتبه أو أسأله لأن المتلقي، وحتى الناقد، حر في تذوقه لما يتلقى أو ينقد، لكن فوزي عندما كان يجمع نصوص العدد الأول لمجلة "اللحظة الشعرية" بلندن كنت أول الشعراء ممن اتصل بهم وربما الوحيد، فهل كان ذلك بمثابة إعادة عن "ذنب" نقدي قديم، أم إنه رأى فيَّ شاعرًا تجاوز مرحلة الفطام؟ لا أدري ولكنني أبتسم.

وقف فوزي على مسافة، يحددها هو طبعًا، من العقائد والأيديولوجيات "الوقوف على التل" لم يجعله ناسكًا معتزلًا الناس في محرابه المعتم أو كائنًا ورقيًا لا مباليًا بأوجاع المدن المحاصرة والأمهات الممنوعات حتى من البكاء، بل هو في قلب معركة العدالة والتقدم وقد خاضها بأسلوبه الشخصي، فردًا يرى إلى المعترك من مسافة مناسبة، وبجيش من الكلمات الباسلة، لا غير، يقوده شخص واحد ووحيد اسمه فوزي كريم.