بالتزامن مع عدوانها على قطاع غزَّة، تحاول سلطات الاحتلال فرض واقع جديد على المسجد الأقصى، يتيح لها إنجاز المزيد من خطوات التهويد في الفضاء المكاني والزماني للمسجد، والدفع نحو إنجاز الاحتلال أهدافه النهائية في السيطرة على المسجد الأقصى وتقويض نفوذ دائرة الأوقاف الإسلامية عليه وإنهاء الدور الأردني فيه.



كانت إحدى ذروات هذه الاِنتهاكات، والتي مثلت أحد أسباب عملية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، في أيام "عيد العرش" اليهودي الذي سبق العملية بستة أيام، وتضمنت طقوسُه اقتحامات واسعة للمسجد من قِبل حاخامات وقادة جمعيات استيطانية، وتأدية طقوس تلمودية وصلوات على أبواب المسجد مع حمل القرابين النباتية. وقد رافق ذلك اعتداء على المرابطين والمصلين، واستفرازهم بإقامة حلقات رقص على أبواب المسجد ورفع هتافات عنصرية، مع التضييق الخانق على سكَّان البلدة القديمة.

مستوطنون متطرفون يقتحمون المسجد الأقصى عند باب القطانين، في 5 أكتوبر (Getty)



ورغم تكرر هذهِ الانتهاكات بشكلٍ شبه يوميّ، إلا أنها في مواسم الأعياد تتضاعف وتيرتها وتتخذ أشكالًا أكثر حِدة وشراسة من قِبل المستوطنين وشرطة الاحتلال، تمهيدًا لتقسيم المسجد الأقصى زمانيًا ومكانيًا، بحسب الناشط المقدسي عبد العفو بسَّام، من بلدة بيت حنينا شمال مدينة القدس.



وفي أعقاب عملية طوفان الأقصى، التي بلغت حصيلتها الرسمية 1200 قتيل إسرائيلي، فرضت سلطات الاحتلال تشديدات مضاعفة على بوابات الأقصى، ونشرت قواته في باحات المسجد، وأقامت طوقًا على مساحة كيلو متر حوله، كما منعت شرطة الاحتلال دخول المسجد إلا لمن تزيد سنّه على 65 عامًا.



كما شهدت مدينة القدس عامةً، والبلدة القديمة بشكلٍ خاص، عسكرة ملحوظة، إذ "تحوّلت القدس حرفيًا إلى ثكنة عسكرية"، بحسب بسَّام، وزاد عدد أفراد شرطة الاحتلال الإسرائيلي وحرس الحدود والقوات الخاصة، وزادت غطرسة تعامل جنود الاحتلال مع أهل المدينة بشكلٍ غيرِ مسبوق، "تعتدي شرطة الاحتلال على الشباب بالضرب لأتفه الأسباب، تجبرهم على رفع ملابسهم، وأحيانًا إنزال سراويلهم لتفتيشهم في الشوارع".

 

كما انتشرت الحواجز العسكرية في المدينة، حتَّى وصل عددها إلى 4-5 حواجز في مسافة لا تتجاوز 400 متر. يقول بسام: "بين بلدتي والمسجد الأقصى 10 دقائق لكن بمر على ثلاثة حواجز أو أكثر حتَّى أصل المسجد". أما زوَّار المسجد من مدن الضفة الغربية والداخل الفلسطيني المحتل فينتظرون مدَّة لا تقل عن أربع ساعات لعبور الحواجز قبل دخول مدينة القدس بسبب اكتظاظ السيارات ودقة التفتيش.



وكثيرًا ما تمنع سلطات الاحتلال من يقطنون في بلدات وأحياء تعتبر بؤر مواجهة ساخنة مع الاحتلال، مثل العيسوية، ومخيم شعفاط، وسلوان، وجبل المكبر، وصور باهر، من الوصول إلى البلدة القديمة في القدس، فضلاً عن منع ما يقول الاحتلال إنهم "مطلوبون" من النشطاء والمرابطين، ومطلوبون لملفات ضريبية، من تجاوز حواجز الشرطة عند جميع أبواب المسجد الأقصى.



وبحسب بسَّام، فإن القبضة الأمنية على مدينة القدس في الأسابيع الماضية غير مسبوقة في نوعها في مقدار العنف والاعتداءات، تفوق ما شهدته المدينة في هبَّات عديدة سابقًا مثل هبة النفق عام 1996، وهبة السكاكين في عامي 2015-2016، وهبّة البوابات الإلكترونية عام 2017، وهبّة باب الرحمة عام 2019، وهبّة القدس عام 2021. "في الأحداث السابقة كان العنف والتضييق لساعات محددة وأيام معدودة لكن هذهِ أول مرَّة يستمر التضييق على المسجد لأكثر من شهر".



يُرجِع عبد الله معروف، أستاذ دراسات بيت المقدس، ومسؤول الإعلام والعلاقات العامَّة في المسجد الأقصى سابقًا، سبب سياسة تضييق الاحتلال على المسجد الأقصى إلى الخوف من تداعيات حدوث مواجهات أو هتافات داخل باحاته قد تؤدي إلى توسيع نطاق المواجهات في مدينة القدس والضفة الغربية وبشكل محتمل في الداخل الفلسطيني المحتل، كما حصل عام 2021 في معركة "سيف القدس".



يؤشر هذا -بحسب معروف- إلى أن حكومة الاحتلال تعرف خطورة ما يجري في الأراضي الفلسطينية، وتفهم موقع المسجد ومكانته، ما حملها على إغلاقه في وجه زوَّاره، وفتحه فقط لكبار السن الذين تتجاوز أعمارهم الخمسين عامًا، وحتَّى هذهِ الفئة العمرية قد تُمنَع من دخول المسجد: "هذا الأمر رأيته بعيني، في يوم الجمعة الماضية مجموعة من كبار السن، يغطي الشيب رأسهم مُنعوا من دخول المسجد دون أي سبب"، يقول بسَّام.



وقد أعطت سلطات الاحتلال قواتها المتواجدة على أبواب المسجد الأقصى الصلاحية الكاملة في اِتخاذ القرار والتحكّم بحركة المصلين فيه، ويكون السماح بدخول المسجد أو المنع يخضع لمزاج الشرطي تمامًا "هو شيء مضحك وغريب في ذات الوقت، إذا الشرطي عجبه شكلك ممكن تدخل، وإذا لا بقلك روّح الأقصى مسكَّر". وهذهِ المرة الأولى التي تسير فيها الأمور بهذهِ الطريقة، بينما في وقتٍ سابق، كانت سلطات الاحتلال تُعمِّم قرارًا على قواتها بمنع فئة معينة من دخول المسجد، وعليه تفحص هويات المصلين وتتأكد من تنفيذ القرار عليهم.



كذلك، زادت القيود على موظفي المسجد الأقصى وحرَّاسه منذ السابع من أكتوبر الماضي، يقول أحد الحرَّاس، الذي -فضَّل عدم ذكر اسمه- في حديث لـ"ألترا صوت": "يوميًا  نتعرَّض للإذلال والتفتيش رغم إبرازنا ما يثبت أننا حرَّاس، وهم يعرفوننا تمامًا، ومع ذلك يجري إعاقة دخولنا إلى باحات المسجد، بل إن الحارس الذي يأتي مبكرًا قبل موعد التحاقه بوظيفته يمنع من الدخول حتى يأتي موعد مناوبته"، ويكون الضرب أو الاِعتقال مصير من يُصدِر أي إشارات أو عبارات الاِعتراض.



أدت هذهِ الإجراءات إلى إفراغ باحات المسجد الأقصى من أهله والمصلين إلا القلة من كبار السن للأسبوع السادس على التوالي، فحتَّى أيام الجمع السابقة، لم تتجاوز أعداد المصلين 5 آلاف مصلٍ، وكان يوم الجمعة الماضية 10 نوفمبر/ تشرين الثاني هو الأقل عددًا من جهة المصلين منذ بداية "طوفان الأقصى" بمجموع 4 آلاف مصلٍ، "وهي تقريبًا عبارة عن أربع صفوف من المصلين في المصلى القبلي"، بتقدير بسَّام، بينما تتجاوز أعداد المصلين في المسجد الأقصى يوم الجمعة في الأوقات الاعتيادية 50 ألف مصلٍ.



ويضطر مئات المصلين في ظل هذه التقييدات القاهرة إلى أداء الصلاة في الشوارع القريبة من أسوار البلدة القديمة، بما فيها وادي الجوز وشارع صلاح الدين، وكثيرًا ما تفرِّقهم سلطات الاحتلال بعد الصلاة مباشرة بقنابل الصوت والغاز المسيِّل للدموع والمياه العادمة.