بعد سبعة وعشرين عامًا علـى انتهاء الحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975-1999) قرَّرت دلال البزري أن تُوقِظ الحكايات النائمة في ذاكرتها إزاء هذه الحرب. هكذا، سوف تستعيد صاحبة "مصر ضدّ مصر" مشاهد متفرِّقة من سنواتٍ مثقلة بالهموم والمصائب وروائح الموت، لتجمعها بين دفتيّ كتاب جاء بعنوان "دفاتر الحرب الأهليّة اللبنانيّة" (المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2017). هذه المشاهد المستعادة، سوف تشكِّل بدورها صورة مكتملة الحضور لتلك الحرب، بخرابها ودمارها وبؤسها الذي أرخت بظلاله علـى حياة البشر.

"دفاتر الحرب الأهليّة اللبنانيّة" مشاهد مستعادة تشكِّل صورة مكتملة لتلك الحرب، بخرابها ودمارها وبؤسها

منذ صفحات الكتاب الأولى، تتدفّق الأفكار اليساريّة للكاتبة لتميط اللثام عن انتمائها السياسيّ، لنتعرّف إلى امرأة مسكونة بأفكار الثورة البلشفيّة التي ستقودها إلى الانخراط في صفوف "منظّمة العمل الشيوعيّ" بدلًا من الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ، ذلك أنّ الأخير في نظر المنظّمة حزبٌ "تحريفيّ انزاح عن الخطّ البلشفيّ القويم، وصار تابعًا للكرملين عبر التنظيم الدوليّ". بينما يرى المنتسبون إلى المنظّمة أنّهم "النظفاء الأوفياء لمثل البلاشفة الأوائل، المتمسِّكين بالطهارة الشيوعيّة الأولى".

اقرأ/ي أيضًا: 7 من أهم المذكّرات السياسية العربية

سوف تنشط دلال البزري في صفوف التنظيم الطلابيّ لهذه المنظّمة. وفي مذكَّراتها هذه، ستسرد صاحبة "مصر التي في خاطري"، وبإيجازٍ شديد، تجربتها تلك التي لم تخلو من الإثارة بفعل الصدامات الدائرة بين طلبة الأحزاب اليساريّة واليمينيّة، مستعيدةً بذلك أجواءً مشحونة بالتوتر والاضطِّراب، تُنذر بانفجار قريب لا محالة.

مع اشتعال نيران الحرب الأهليّة أخيرًا، ستجد دلال البزري نفسها تتجوّل في أروقة مدرسة حوّلتها المنظمّة برفقة الحزب الشيوعيّ إلى مركز لهما. تتشارك مع رفيقاتها مهامهنّ اليوميّة، والمقتصرة على الطبخ والتنظيف وغيرها من الأعمال النسائيّة. بينما ينصرف الرفاق إلى النقاشات والاجتماعات الحزبيّة المكثّفة، والتحليلات السياسيّة التي تُفيد بأنّ أحزاب اليسار اللبنانيّ في طريقها إلى تحقيق نصرها الساحق على الأحزاب اليمينيّة، مدفوعين بنجاح تجارب بعض الحركات اليساريّة في مختلف أصقاع العالم آنذاك. عدا عن فكرة "إذا قمنا بالمهمّات الحزبيّة الموكلة إلينا على الوجه المطلوب، فمن المؤكّد أنّنا سوف ننتصر على اليمين اللبنانيّ، ونحوّل بلادنا إلى قاعدة صلبة للانطلاق منها إلى تحرير فلسطين" تقول دلال البزري.

هكذا، تضعنا صاحبة "سنوات السعادة الثوريّة" إزاء حياة ثانية تنشأ في تلك المدرسة؛ حياة صاخبة ومسكونة بأحلام الثورة وقرب انتصارها. ولكن ما أن نتوغّل برفقة دلال البزري أكثر في تفاصيل تلك الحياة، حتّى تتبدّل الصورة الخارجية المنطويّة على أحلام سريعة الإنطفاء، ومشاعر تعيش حالة من الفتور والضجر، ذلك أنّ لا جديد يحدث. وعدا عن تحليلات الرفاق القادة، ليس ثمّة ما يؤكّد أنّ انتصار اليسار بات قريبًا.

دفاتر الحرب الأهليّة اللبنانيّة

على هذا النحو، وفي ظلّ هذه المشاعر المضطّربة والمتأرجحة بين الحضيض والذروة، بالإضافة إلى العشوائيّة التي اتّسمت بها طريقة عمل الأحزاب اليساريّة، فلسطينيةً ولبنانيّة، تتواتر عدّة أحداث سوف تطيح بيقينيات دلال البزري، وترسّخ لدى الكثير من أعضاء المنظّمة استحالة الثورة والتغيير. هنا، سوف يخطف علي، المسلم، والوافد الجديد إلى المدرسة، رفيقه المسيحيّ جورج ثأرًا لأحد أقاربه المحتجز عند ميليشيا "القوات المسيحيّة". سوف تهزّ هذه الحادثة صورة المنظمّة عند أبنائها، وتكشف عشوائيتها في تجنيد الأعضاء الجدد، أولئك الذين "صاروا شيوعيين بعد ندوتين أو ثلاث ندوات" والذين "لا يختلفون عن العناصر غير المنضبطة التي سوف نعهدها، إلّا في درجة تشبيحهم".

في مذكّراتها هذه، تبدي دلال البزري إلمامًا بالتفاصيل والأحداث الهامشيّة، كونها تعتقد بأنّها الإجابة على سؤال: "ما الذي أوصلني إلى هنا؟ إلى هذا؟"

اقرأ/ي أيضًا: عماد بزّي.. من زواريب بيروت المنسية وعنها

باستقالتها من المنظّمة، تطوي دلال البزري حياة حزبيّة عصيبة لتفتح أخرى مثقلة بالهموم والمصائب، لتضعنا بذلك أمام مشاهد مستعادة من حياتها الشخصيّة بعيدًا عن مركز حيّ الشياح والمهمّات الحزبيّة، وإذا بنا إزاء حكايات متفرّقة عن الحياة داخل الملاجئ، والهرب من القصف، وصعوبة تأمين مستلزمات الحياة اليوميّة، وتهجيرها من "حارة حريك" بعد توسّع نفوذ حركة أمل "الشيعيّة" في المنطقة مدعومة من القوات السوريّة. سوف تهزّ هذه الحادثة صاحبة "أخوات الظل واليقين" بعمق. وتعلن عن بدء حقبة جديدة من الصراع الطائفيّ؛ صراع سنّي – شيعي يطوي حقبة الصراع الإسلاميّ – المسيحيّ.

في مذكّراتها هذه، تبدي دلال البزري إلمامًا بالتفاصيل والأحداث الهامشيّة، كونها تعتقد بأنّها الإجابة على سؤال "ما الذي أوصلني إلى هنا؟ إلى هذا؟".

 

اقرأ/ي أيضًا:

تبغ وزيتون: حكايات وصور من زمن مقاوم

نفايات الحرب الأهلية