مطر خفيف يغسل بهدوء وجه بيروت هذا الصباح، أحتمي أمام إحدى عمارات وسط المدينة الحديث جدًا المُشيّد على أنقاض وسط المدينة القديم، حديث ببناياته ومحلاّته ووجوه مرتاديه، غير بعيد منّي، في الطرف الآخر من الطريق، أمام مدخل عمارة متعبَة، كعجوز وحيدة في حفل شبابي، تكدّست حواجز إسمنت وأسلاك شائكة في مشهد غير متناغم مع ما حوله، جندي يطوي مسافة بضعة أمتار جيئة وذهابًا كأرجوحة، قبّعته التي توحي بأنّه من القوّات الخاصة بها نيشان صغير يروح ويجيء كأنّه أرجوحة صغيرة، تتملّكني فكرة الأرجوحة هذه، إنّها تحيلنا إلى فكرة العود الأبدي التي "أربك بها نيتشه الكثير من الفلاسفة" كما كتب ميلان كونديرا في بداية روايته البديعة "خفّة الكائن التي لا تحتمل".

 فكرة الأرجوحة تجعلني أفكّر إلى أيّ حدّ يمكن لغريزة التكرار أن تكون أصيلة في الإنسان

إنّ فكرة الأرجوحة هذه تجعلني أفكّر إلى أيّ حدّ يمكن لغريزة التكرار أن تكون أصيلة في الإنسان، تكرار المآسي تحديدًا، وكيف استطاع الإنسان أن يُروّض هذه الغزيرة وأن يفرغها في أشياء جميلة، أفكّر في الرقص مثلًا، في جسدي وهو يكرّر نفس الحركات بخفّة مستمتعًا في آخر لياليّ في بيروت، في "الباروميتر"، مطعم صغير وحميمي في أسفل الحمرا يتحوّل في الليل إلى مرقص لغير المحترفين، ستكتشف بعد أن تنهي رقصاتك كلّها وتأمّلك في المُعاد والمُبتكر أنّ بيروت كلّها باروميتر حقيقي يتحسّسُ كلّ شيء.

كيف لا وحرب عالميّة تحرق الجغرافيا حولها، وندوب الحرب الأهلية ما زالت ظاهرة على جسدها. أمّا ذلك الجنديّ الذي يطوي بتثاقل نفس المسافة جيئة وذهابًا تحت مطر بيروت الخفيف وهو يعتمر سلاحاً ثقيلًا، فلا تبدو عليه علامات التمتّع، رجّحتُ أنّه يتمنى بينه وبين نفسه لو تحوّل ذلك السلاح الآن فجأة إلى مظلّة. أتأمّل الشّارع شبه الفارغ، بينما أنتظر سيارة أجرة تحملني إلى الحمرا، كان المشهد أقرب إلى صورة فوتوغرافيّة ثابتة، ليست أيّ صورة بل تلك الصورة تحديدًا، صورة مارك ريبو "البنت صاحبة الوردة"، بشعرها القصير غير الاعتيادي سنوات الستينيات، سترتها المورّدة ووجهها الذي تتأرجح معانيه بين الغضب والهدوء وهي تحمل "وحيدة" بثقة وردة أمام رتل من العساكر المتشابهين الذين يوجّهون لها بنادقهم بخناجرها البارزة، هل كانت حقًا تريد أن تهزم إرادة جيش ودولة بوردة؟ كنتُ أردّد السؤال وأنا أتأمّل رشّاش الجندي حينما توقفت سيارة أجرة، ألقيت التحيّة وصعدت بعد أن سألته إن كان متجهًا إلى الحمرا، لون السيّارة في الداخل كان زهريًا أيضًا كسترة البنت صاحبة الوردة، فكّرتُ في أنّ أنسبَ اسم لهذه الفتاة قد يكون بيروت، بيروت التي تواجه كلّ هذه البنادق بعنفوان الوردة.

في الطريق إلى الحمرا، تمرّ سيّارة الأجرة ببعض البنايات التي ما زالت آثار الحرب الأهليّة باديّة عليها، رغم انتهاء الحرب منذ أكثر من عشرين سنة، لم أقاوم الرغبة في المقارنة بينها وبين مدن الجزائر، ففي الجزائر لم تعد هناك آثار للحرب الأهليّة، هذا يعكس إلى حدّ بعيد تدخّل الدّولة في صياغة الفضاء العام ومنه الذاكرة إقصاء ومحوًا أو احتفاء وتصديرًا، إنّ هذا يجعلنا أيضا نلاحظ التباين بين حضور الدولة الطاغي في الجزائر وبين غيابها في لبنان، الغياب ليس دائمًا شيئًا سيئًا، فعقيدة الدولة وحضورها وسردياتها الرسمية وتاريخها الرسميّ قد يشكّل مشكلة في حدّ ذاته، إضافة إلى الثقل الرمزي الذي يمكن أن يلقيه على النُخب والمتعلمين بشكل خاص، وتأثيره في فهمهم ورؤاهم وأطروحاتهم وإنتاجهم للقيم والأفكار والمواقف، التي سيستهلكها الفرد البسيط المُستهدف أصلًا بالدعايات والروايات الرسميّة.

في الجزائر لم تعد هناك آثار للحرب الأهليّة، ما يعكس إلى حدّ بعيد تدخّل الدّولة في صياغة الفضاء العام ومنه الذاكرة

يبدو هذا الغياب النسبي للدولة في لبنان، القائمة على التوازنات في الداخل والخارج والتفاوض والتحالف المتغيّر دائمًا، قد جعل المتعلمين ممّن التقيتهم في بيروت يتمتّعون بشيء من الخفّة والانفتاح الفكري والإنساني المميّز، فأي دليل سياحي سيهديك إلى معالم المدينة الأثرية ومتاحفها القليلة، لكنّ روحها الحقيقيّة ومن يؤثثها حقًا وينافس فيها الأماكن التي يزورها عادة السيّاح هو الإنسان البيروتي، بتناقضاته وبساطته بتعقيداته وتناغمه وباحتفائه بالحياة متخففًا من ثقل الانتماء إلى الهياكل والسرديات الكثيفة للدّولة، كأنّ الفرد المرجوّ قد تحقق لكنّ الدّولة الشفّافة التي نريدْ لا تتأرجح إلاّ بين الكثافة وبين الانعدام.

في الطريق أمام ساحة الشهداء التي تقف فيها تماثيلهم يخترقها رصاص، لا تعرف إن كان جزءًا من العمل الفني أو تشويها متقصّدًا، تجعل تفكيرك يتأرجح بين الفنّ والحرب، هنا أيضًا ينتصب مبنى جريدة النهار الضخم، تغطي واجهته صورة كبيرة لرئيس مجلس إدارتها الصحفي المغتال جبران تويني وتحتها كتبت عبارة "أحلف بالعشرة"، تعوّدت أن أقرأ أو أسمع عبارة "أبصم بالعشرة" إشارة إلى الأصابع العشرة، وأن نحلف دائمًا بشيء واحد، لكنّ ربّما هذا يحدث في بلد مثل بلدي الجزائر المثقل بتاريخ الحزب الواحد واللغة الواحدة والرئيس الواحد والرّب الواحد، أمّا هنا فيتعدّد كلّ شيء ويتناقض، وليس غريبًا أن يكون هناك آلهة عشر، أيًّا كان فأنا متأكد من أنّ من بين هذه الآلهة، إله للحياة والخفّة والاحتفاء باللحظة.

ونحن نقترب من الحمرا، ألمحُ جنديًا بنفس قبّعة ذاك الذي تركته في وسط البلد، فأعود إلى التفكير في الأرجوحة وفي فكرة العود الأبدي وعيناي تتتبّعان نيشان قبعته، أفكّرُ في "البنت صاحبة الوردة" وكيف تمكّنت فعلًا هي وأخريات من إيقاف حرب الفيتنام بوردة... ثمّ ماذا عنّا نحن؟ هل نستطيع أن نهزم كل هذه الرشاشات بوردة؟

اقرأ/ي أيضًا:

سمير قسيمي.. في مجتمع مُغتصب

مأساة الأدب