قد يتحمل المرء فظاظة الآخرين في الحياة العادية. وقد لا يعير الآخر اهتمامًا حينما يأمره بالسكوت وإغلاق النقاش. ربما قد يقوم بالرد عليه بردات فعل لا أحد يتكهنها. هناك احتمالات عديدة طالما أن الأمر محصور بين طرفين اثنين، فالإحراج لن يحضر. إلا أن هذا الفعل يستدعي رد فعل حازم عند حدوثه على إحدى البرامج الإذاعية، ومباشرةً على الهواء. لأن المذيعة قررت إسكات المتصل كيفما كان لأن رأيه لم يُعجبها. كيف لا، فهي سيدة المنبر. تتمتّع بالحق في إسكات المتصل على برنامجها وبطريقة النهي. ولها الحق أيضًا بقطع الاتصال على مسامع المستمعين. ومن ثم الانصراف إلى شتمه وتوجيه الإرشادات إلى كافة المتصلين.

يحدث هذا في لبنان. مذيعة ثانية، تتحدث من منبر إذاعي آخر، لبناني أيضًا، تناولت قصة من السعودية عن قيام زوجة بقطع العضو الذكري لزوجها. فانطلقت المذيعة في خيالها لتشرح للمستمعين شعور الزوج والزوجة عند حصول الحادث، مستخدمةً الموضوع لإطلاق النكات والضحكات ذاهبة إلى توصيف المشهد بدقة قائلةً "قطشتلو الحمامة".

إحدى المذيعات أفردت وقتًا للحديث عن قطع زوجة سعودية لعضو زوجها الذكري

هذه عينة مما يحصل على البرامج الإذاعية اللبنانية. هذا وبالتدقيق أكثر وبمتابعتها اليومية نجد ناتجًا عنها أخطاء بالجملة. إذ الهواء يُفتح من جهة للمستمعين بدون أي رقابة تُذكر، ويترك للمذيع التصرف بما يحلو له بدون مراعاة أصول المهنة. فناهيك عن أسلوب التعامل مع المستمعين التي وضّحته المذيعة المذكورة أعلاه في برنامجها على الهواء بأنها إذا أرادت ترك المتصلين على راحتهم والحديث كيفما يريدون، فإنها لن تصل إلى شيء معهم. قد تبدو هذه حجة معقولة إلا إنها ليست كافية للتعامل الفوقي مع المتصلين.

ناهيك عن الدلع الذي يصدر من قبل المذيعات، وأحيانًا المذيعين، الذي يتدرج بين التأوهات والتنهيدات، الصوت الناعم، والضحكات العالية. وقد يبدو تقبّل ضحكة أنثوية لمذيعة أمرًا معقولاً. ولكن كيف بمذيع يصدر عنه تلك القهقهات الأنثوية، يكاد المستمع يحتار في جنسه. أو ثقة المذيع الزائدة بنفسه بجمال صوته، لينطلق ويغني مع كل أغنية تُبث عبر برنامجه. يقول أحد المستمعين خلال إبداء رأيه "أن صوت ريما نجيم يُلعي النفس صباحًا، لا أعلم كيف احتملها المستمعين أيامًا متواصلة عند دخولها لكتاب غينيس".

تنقسم الإذاعات اللبنانية إلى فئتين: الفئة الأولى وهي التي تبث برامج سياسية وغير سياسية، وعددها ثماني عشرة إذاعة بحسب المجلس الوطني للإعلام. أما برامج الفئة الثانية فهي التي لا تتضمن برامجها الشؤون السياسية وتتخصص في التسلية والترفيه، وتدعى إذاعات الـ FM. ويبلغ عددها أربع وعشرين إذاعة، يضاف إليها عشر إذاعات تبث وتعمل بموافقة المجلس الوطني للإعلام، لكن بدون صدور قرار من مجلس الوزراء بحقها حتى اليوم. كما يوجد إذاعات تعمل بدون موجة مخصصة لها، لذا تقوم بالتعدي على موجات إذاعات أخرى لكي تبث. إذ تكمن المشكلة في عمل الإذاعات اللبنانية: عدم وجود موجات كافية، وعدم صدور المراسيم الوزراية.

على الإذاعات اللبنانية وتحديدًا إذاعات الـ FM، تتراجع البرامج التثقيفية لصالح البرامج الترفيهية" التسلية"، فيما يقابلها انخفاض في المادة الإعلامية التثقيفية. إذ تركّز أغلبية الإذاعات اللبنانية على البرامج التي تستقبل اتصالات المستمعين أو بث الأغاني والإعلانات الترويجية. علمًا أن دفتر الشروط النموذجي للمؤسسات الإعلامية الإذاعية للفئة الثانية في وزراة الإعلام يؤكد على مواكبة التطور الفكري والثقافي والتقني بما يسهم بارتقاء مؤسسات الإعلام اللبنانية إلى المستويات العالمية. ويصر على تحقيق أداء المؤسسات الإعلامية رسالتها كأدوات فعالة في بناء الإنسان وتطوير الذوق العام ورفع مستوى الجمالية والرهافة.

نصح رئيس المجلس الوطني للإعلام اللبنانيين بالتوقف عن الاستماع إلى الراديو!

فرق شاسع عند المقارنة بين المطلوب والواقع، إذ كيف يمكن الارتقاء بمؤسسات الإعلام في الوقت الذي تسعى فيه الإذاعات اللبنانية إلى الترويج إلى أفكار ومواد مستهلكة بهدف رفع نسبة المستمعين؟ وكيف يمكن لهذه المحطات الإذاعية أن تكون أداة فاعلة في بناء الإنسان في الوقت الذي تفسح فيه الهواء للمقدمين والمستمعين بذكر شتائم وكلمات لا أخلاقية على الهواء. عدا عن ابتكار مفردات أقرب إلى كونها مفردات جنسية سوقية. الحريّة مقدّسة، والرقابة مرفوضة دائمًا. لكن يجب استخدام الحرية كما ينبغي.

يتحدّث أحد خبراء الإعلام في لبنان عن واجب تلك المحطات في مراعاة القيم الاجتماعية والآداب العامة في المخاطبة والالتفات إلى أهمية هذا المنبر الإعلامي لاسيما لجهة دخوله إلى كل الآذان. موضحًا أن رسالة الإذاعة هي التوجيه والإرشاد، حتى الترفيه له أصول بالإمكان بثه بكثير من اللياقة والأدب. كما يؤكد على قاعدة احترام المقدم للمستمع. إذ يحق له مقاطعة المستمعين ووضع الحدود لهم في حال إخلالهم بشروط البرنامج. على سبيل المثال: تجاوز الفترة المسموح بها، بث التعصب، التحريض. إلا أن تصرفهم هذا يجب أن يكون لبقًا وترحيبيًا. إذ أن تصرف الأخير يبرز مدى مهارته في التواصل الإذاعي. من هنا، ينبغي طرح تساؤلات عديدة على رؤساء الإذاعات اللبنانية حول عمل المؤسسات التي يديرونها والأهداف المراد تحقيقها. وتدور حول نوع البرنامج، وشخصية المقدم، توقيت البرنامج، الموضوع المطروح وغيرها من الأسئلة.

الرقابة ليست مستحبة فالحرية مقدسة لكن يجب إحسان استخدامها

أما السؤال الأبرز الذي ينبغ طرحه، يدور حول تفعيل الرقابة على عمل تلك الإذاعات. هنا، يؤكد رئيس المجلس الوطني للإعلام عبد الهادي محفوظ في حديث لموقع "ألترا صوت"وجود الرقابة على هذه الإذاعات، رقابة. نعم.

لكن السؤال دائمًا، رقابة على ماذا؟ نحن في 2015. هذا التأكيد يستوقف أيًا كان في ظل المخالفات التي تحدث على لسان المذيعين مباشرة على الهواء من جهة، وعلى القيمين على المحطات الإذاعية من جهة أخرى!

يشرح محفوظ "إن تفعيل الرقابة أدى إلى ملاحظة مخالفات لعدد من الإذاعات، تبقى في إطار ضيق. إذ تتركز هذه المخالفات في تناول مسائل ومواضيع لا أخلاقية، واستعمال ألفاظ بذيئة. وقد قام المجلس الوطني للإعلام بتوجيه تنبيهات لعدد من المحطات الإذاعية على خلفية هذا الموضوع". و تحدّث محفوظ عن إشكالية عدم القدرة على توقيف الإذاعات عن العمل بسبب انعدام القرار السياسي الداعم في هذه الخطوات.

 إذًا المجلس الوطني للإعلام، قادر على منح الرخص لافتتاح المحطات الإذاعية إلا إنه يفتقر إلى الجرأة في اتخاذ قرار توقيف إذاعات مخالفة عن العمل دون دعم سياسي. معللًا رئيس المجلس السبب بأن كل هذه الإذاعات يرعاها رؤساء أحزاب أو منتمون للأحزاب. من هنا، يوضع اللبناني أمام خيارين: إما التوقف عن الاستماع للراديو، تحديدًا البرامج "الهابطة" كنوع من الحماية من التلوث السمعي. وإما السير في موجة "التحرر المقنّع" التي أصابت بعض المحطات الإذاعية ومذيعيها.

والنِعم.

اقرأ/ي أيضًا:

سياسيو لبنان من "طهّر نيعك" إلى "سد بوزك"

"الترول" في الفضاء الافتراضي العربي