يعد عصرنا الحديث هذا، من أهمّ العصور التي مرّ بها الشعر العربي، وأخطر مراحله، فالشعرُ الآن يواجه نفسه بنفسه، حيث استنفد خلاله تجاربه على كل الأصعدة، فها هو يلقي ببوق القبيلة وبالقبيلة ذاتها في البئر، وها هو يتقاعدُ من مكاتب الأحزاب السياسيةِ، ويستبدل البزّة العسكرية بقميص مشجر، ليؤدي دوره الحقيقي خارجًا عن سياق السيناريوهات التي أعدها له الشعراء والمنظرون سلفًا.

ليست المشكلة في الجمهور، بل في الحكومات التي تلغي عنده ضرورة الفن، بسياسات التجويع والقمع والفساد

في الأردن، كثير من الشعراء، وتحديدًا الشباب، برروا انقلابه الجمالي هذا، وتحلوا بالجرأة فانقلبوا بالتالي، جماليًا، على أدواتهم وأفكارهم، وثوابتهم، بينما قلة منهم تواطؤوا ضد هذا الانقلاب لقصور رؤاهم وقدراتهم الفنية على مواكبة الجديد وممارسته، ولو عاينا نتاج التجارب العربية الجديدة لوجدناه ينأى بالشعرِ ومعه نحو رؤى وتأملات واستكشافات ومعارف تردم الهوّة السحيقة بينه وبين العالم من حوله.

بهذا الانقلاب نُسفت، تلقائيًا، نظريات نقدية ومفاهيم أدبية وفنية، كان يظن أصحابها بأنها باقية ما بقي الشعر، وها هم يفاجأون بأنهم كانوا يتعاملون مع كائن متفجر ظنّوه كتلة باردة يشحنوها هم بالطاقة والحركة. وهنا أضيف أمرًا آخر مهمًا تخلى الشعر عنه، وأسقطه من مدونته ألا وهو المنبر/ المنصة، الذي بقي لعصور طويلة يجلب إليها مخفورًا من قبل شعراء لم يكن يرى الشعر فيهم أكثر من رجال شرطة.

إن من أبرز نتائج التخلي هذا، هو القطيعة بين الشاعر والجمهور، تلك الحشود التي تطالب القصيدة بتضمين بيانات اجتماعية، ودينية، وسياسية، لا يتطاول بها الشاعر أعلى من سقف مداركهم، وفي حدود إطار رؤاهم، وضمن قناعاتهم المتوارثة، وتعبيرًا عن مكبوتاتهم النفسية والعاطفية.. حشود تجثم أمام المنبر معطلة الذهن والحواس، معطلة تمامًا باستثناء أكفها تلك المستعدة مسبقًا لمهمة التصفيق.

فالقطيعة إذًا ابتدأها هذا الجمهور، كما دفع بالشاعر "الانقلابي"، تلقائيًا، إلى فرز شريحة محدودة يسعى إلى شراكتها له لإتمام فعله الشعري، سرعان ما أسماها النقد "الانقلابي" أيضًا بـ "المتلقي" أو بـ"القارئ"، الذي يتابع ويعاين نتاج شاعره من خلال معايير معرفية وجمالية، فيتطور بتطور هذا النتاج الذي هو شريك أيضا بتطوره، ليغدو على تماس شديد مع الشعر لا مع الشاعر وبذلك لا حاجة للمنصة بينهما.

لا يشترط الشاعرُ "الانقلابي" عدد قرائه، بل ما من شاعر لا يطمح أو لا يسعى إلى أن يقرأه الملايين، وأن تطبع كتبه بالعدد نفسه، أو أكثر بقليل، لكن دون أن يكون ذلك على حساب الشِّعر من خلال تقديم تنازلات تمس قيمة منجزاته الجمالية والفنية والمعرفية، وإلا فهو مكتف بتلك الشريحة من القراء الانقلابيين، يمارسون معًا عزلتهم المشرعة على الكون والآخر، وهم يدركون أن الأهمية تقاس بالأثر لا بالعدد.

فالشاعر الانقلابي الحقيقي يعلن شعره عنه، فلا يهدر وقته في نسج علاقات عامة، أو ينفق من جيبه لجذب آلة اعلامية له، تتقدم بالشاعر ألف سنة ضوئية عن شعره، فيصبح شاعرًا بلا شعر ويصبح منجزه مجرد أخبار هزيلة وحوارات مرتجلة في صحافةٍ سرعان ما تعطن عناوينها.. إن فعل الشعر أشبه بفعل تلك الوردة التي تفلق بجذرها المرهف جبلا، تريك أثرها أكثر مما تريك نفسها.

لكن هنالك ما يحسب لهذا الجمهور أو المتلقي، فحتى الشعراء الانقلابيون أنفسهم ورغم ما حققوه من انزياحات هائلة على صعيد اللغة والصورة والمضمون إلا أنهم امام التابوهات تكون معاولهم طرية واهنة مقارنة بالجرأة التي يتحلى بها القارئ الحديث، أي أن هذا القارئ سبق شاعره وعيًا وجرأة في طرح قضايا الجنس والدين والسياسة ومعالجتهم، وهذا ما كشف عنه الفيسبوك فعلى سبيل المثال ينشر شاعر مقطعًا شعريًا يتضمن ايحاء جنسيًا مبطنًا تنهال عليه تعليقات أقل ما توصف به بالإباحية المكشوفة المباشرة، وكأنه تحدٍّ علني من القارئ لشاعره كي يتجاوز نفسه ويتجاوزه، كذلك في قضايا الدين والسياسة.

بهذا لا نوجه التهمة بأكملها إلى الجمهور، وإن كان شريكًا رئيسيًا في الجريمة الثقافية، بل إلى تلك الحكومات التي تلغي عنده ضرورة الفن، بفرض سياسات التجويع والقمع، ومن خلال فرضها لثقافة هي من تصنعها وتشرف عليها على أيدي بعض مثقفي وشعراء الدرجات المتدنية التي تستميلهم بالمال والوظائف، بينما تقطع أدنى سبل الرعاية عن الشعراء الانقلابيين الذين لا يربحون في النهاية غير الشعر.