بعد رجوعه من صلاة الظهر في جامع الأربعين، يغسل جلبابه وينشره في المنوَر، ثم يشرع في ممارسة عمله. يصبّ الجبس في القوالب، ثم ينقلها إلى بقعة الشمس الضيقة الساقطة من النافذة إلى وسط الحجرة. يبدأ في تلوين التماثيل التي صنعها بالأمس بألوان بدائية فاقعة، بينما لسانه يتحرك بما حافظت عليه ذاكرته الكهلة من آيات الذكر التي حفظها طفلًا في الكُتَّاب القديم بحارة البستان.

حين ينتهي من عمله، يكون موعد العصر قد أزف.

يصلّي ويرتدي جلبابه ويبدأ رحلته اليومية حاضنًا تمثاله متمتمًا بختم الصلاة، مُلقيًا السلام على كل من يقابله. يلتقط فرع ريحان من الشجرة المدلاة من سور بيت الدالي، يفركه في كفه النحيلة.

في الطريق يمرّ على مقام ذي النون المصري فيقرأ الفاتحة والصمدية وخواتيم البقرة.

يسير خطوات قليلة ثم يعبر شارع البحر الأعظم الذي تآكل أسفلته وتهدّم رصيفه.

يسير بمحاذاة النهر، مادًاعينه الكليلة إلى جزيرة بين البحرين، بأشجارها ونخيلها وغموضها الجميل.

حين يصل إلى مسجد أمير الجيوش، يكون نهجانه قد تصاعد إلى أعلى درجة، فيسند ظهره إلى جدار المسجد متأملًا قصر المانسترلي، الذي يمتدّ بجرأة إلى وسط النيل.

طقوس ظلَّ يمارسها منذ ماتت زوجته في الخمسينات، وهاجرت ابنته، وأصبح وحيدًا، إلا من علاقاته العابرة بناس حارة الهجّان وحارة الترعة الشرقية.

يتساند على جدار المسجد ليكمل مشواره اليومي حاضنًا أبو زيد الهلالي وعريس وعروسة.

رغم تقلبات الزمن، يعرف بخبرته الطويلة أين يجد زبائنه.

ينحرف من الشارع الرئيسي إلى الحارات الضيقة، حيث بيوت العربجية وعمال المصانع وبائعي الفاكهة السرّيحة، يعرف تفاصيل حياتهم: من سيزوج، من سيفتح دكانًا ومن سيعيد طلاء بيته.

يبيع ويسترزق. وفي طريق عودته، يصلي المغرب ويشتري ورقة سمك أو لحم ويعود إلى بيته مشبعًا بالرضا ووَنَس الشارع.

لكن الأمور تغيّرت.

على مدار الأسابيع الأخيرة، يجوب البلد متعبًا، يكاد يطرق أبوابها بابًا بابًا، ولا أحد يقول له بسم الله.

أحسَّ انصرافهم عنه، وتعمّدهم إهانته بعدم ردّ السلام عليه.

كاد أن يجنّ.

أهمل طقوسه، إلا الصلاة.

ولم تعد رائحة الريحان تفوح منه.

انطلق من بيته بعد العصر. من حارة الهجّان إلى محطة الترام ودخل البلد من ناحية الجسر. صدره مفعم بالضيق ومدخراته على وشك الانتهاء.

يسعى على لحم بطنه.

في أحد المنعطفات كانوا يتهامسون. نظر أحدهم ناحيته بغضب وبلهجة حادة منذرة: "بائع الأصنام، وقانا الله شرّك". لم يعره انتباهًا، وسار ناحية النهر. هبط المنحدر، ولامس الماء قدمه المتعبة.

وبأقصى قوّته، ألقى التماثيل في النهر، ومضى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

يوميات بضغطة زر

رائحة الحديد