عرفت نفسي في أوائل الأشياء
في الغسق واللبأ والبواكير
أَحدُث لوقت قصير
وأظل في الصورة ماثلة
مثل لون
يبقى أثره
حتى بعد أن يزول
صفاؤه.
*
ماذا تعرف عن الذهاب في الأعماق؟
عن ارتياح الملح في طبق طعامك
والصخرة الذائبة في باطن الأرض
عن الماء المحاصر في قطعة ثلج
والظلام البعيد في إغماضة مقصودة!
أعرني حيرتك التي تفتتح بها الأحاديث
جسارتك التي تهدم بها كبدًا أو تمد طريقًا
وخذ أعذارك من قلبي
من صمتي الذي يعنيك
من دَين الأيام التي صمدت في معصمي،
قبل أن يصير الوقت سنينَ وساعات
من بأس البراكين التي جفت،
دون أن تستدير على عنقي قلائد
وفي قدمي خلاخيل
من انتشارك بي مثل ضوء أو شرود
من ذيوعك مثل إثم
ستجد كل ما يثير الدموع منجذبًا لك
يدرك الرفق في قلبك
وفي عينيك الماء.
*
بطريقة ما تشغلني
عندما أتجاهلك
وعندما أبتعد عنك
بطريقة ما
أقول لك شيئًا
عندما أناديك
وعندما أصمت عن ذلك
أمام البساتين التي اهتديت بها
غنيت رجاءً حراقًا لشجرة بعيدة
ألا تحجب عن أمنياتي السماء،
إمعانًا بالحنين والأسى.
ما الذكريات إذن يا حبيبي
لا بلد لك يا ابن الكون
لا موطن يحمل فكرتك عن الأرض
تنتقل بخفة في الهواء
بينما ما زلت ثقيلة
أتطلع لبرج هوائي على أنه أطلالك
وأفكر بحسرة وألم
بابتسامتك الواسعة الفريدة
تلك التي لم تتحول
لموجة مغناطيسية.
*
هذه الكواكب كلها في ورقة
والمسافات الصعبة بينها
مرصوصة في فراغ مصمت
خذ الكون من يدي
وإن لم يكن مطابقًا
واجعله في مذكرتك
في الصناديق القديمة
أو تجاهله في قرص مدمج
بالجلالة التي تغمرني قرب أي شجرة
ناديت الله
بكل سبيل يدفع اللون في وجهي
أنا المرأة الشيقة في الصور
الرعوية في الحب
المندفعة في الطرق
والصامتة في المرايا
أردت سنواتٍ من الحب،
سهلةً وممكنةً في فمي
ظلالًا على الأرض،
مصبوبة في غفوتي
لم أعلم كيف تكاثرت الأوقات التي أمضيتها
وحيدة مُكرّسة
أتابع الطرق والمطلّات
عبر نوافذ
زجاجها
يعكس صورتي.
*
لولا كلمة "تعالي" في الأغنيات
ما كنت لأعبر بأنفاس متهدجة
مثل نبتة برية
أخاديد الحقول
على عاتقي تبجيل ألحية خشنة
لشجرة عجوز
إذا ما أشاح الناس وجوههم
عن هشاشتها وزوالها
أنا قشرة لعمق لا أدركه
بيدي معزقة ومحراث
وعلى كتفي عتلة ومِلوى
حملتُ الحياة في ابتسامتي
ثلاثة عقود
والماضي الذي يبدو مدوّرًا في جذع الشجرة
بدا مديدًا ومرتبًا في فنائي.
*
هناك مطر يؤلم
تحت سُلالات اللوز
مطر يلمّ الذكريات
من كل مياه الأرض
ليصبّها فوق غصن رمادي مزهر
شاهدتك كيف تنهمر بخفة على حواف خشنة وحادة
وكيف تغدو ثقيلًا على محيط ورقة ملساء
خشيتُ ألا أتذكرك لعشر سنوات آتيات
فزرعتك في أماكني المعتمة، كقنديل
لتسجن الريح العاتية في صناديق
وتكبر هناك مثل فطر نادر
أنت الذي تختفي دون أن تنهمك بالغياب
مثل الشمس
في نهايات البحار،
وخلف أي جبل.
*
ملمس بشرتك في يدي
أصنع منه الأحجيات
كم أنت قريب وممكن!
سَمّيت حاجاتك كلها نهوضًا
وإن كانت مجيئًا أو غيابًا
حبًا أو تخليًا
نفورًا أو اقترابًا
عرفت كيف يندفع الصمت في قلبك،
طرقًا متصدعة ومكسوة بالحصى
وكيف تضيء عيناك البحيرات
قبل أن كانت
فيروزية لامعة
سآخذ يوم ميلادك للماضي
وأزرعه
حورًا وزيتونًا
أريد لأثقالك أن تكون ظلالًا وثمارًا
وللمشيئة الموزعة في هذا الكون أن تلبّيك
لمجرد فكرة تُراوح يائسة في حيرتك
وقبل أن يصير ما تريده طلبًا.
*
الرمادي في منتصف السماء
والليلك على أطرافها؛
يرافق النهار إلى نهايته
ويوقع الرفق في قلبي
والعافية
والترحاب.
أملًا في رؤى متشابهة
جعلت رأسي قرب رأسك
مَرّت الجوارح عبر أعيننا
والسحب مضت
والشهب في أعماق ندركها، انطفأت
حظينا بخبرات قريبة
بدموع وضحكات
مرهفة وثمينة
تحاصر الكون الذي يتسع
بحرارة أسبابها
نحن من يُبكينا الغبار الذي لا يُرى
وتُصالِحنا زهرة تتفتح.
*
يتجمع الماء كهفوة
في قالب حذاء مطبوع على إسفلت ساخن
تسبح به اليرقات
وتتحاشاه الأرجل!
هناك من يجعل الطريق مسلّية
والخطوات على امتدادها لعبة.
هبت عيناك في رأسي
مثل عاصفة متفاوتة
تنمو منذ عشرات السنيين
تجعلني غير مستقرة
وتظهر مثل إشارة حمراء في وجهي
عندما أخبر الناس عن أجوائي.
كم من بقعة سمراء في جسدك
شيقة وغامضة
لا يمكن لشيء أن يهرب منها
إنها تمتص كل ما يقترب
حتى محاولة الآخرين لرصدها؛
إنني أتوقعها
من تخمين جاذبيتها.
مذهل كيف يسترجع الكون قصته
كيف يستعيد الكواكب من الغبار
أو يُفلت النيازك من حقولها
ثم كيف يرتفع بقيعان البحيرات
ويطلق فيها
مَلَكات امرأة.
*
الكون مِرسال كبير
وصندوق بريد أيضًا
كل شيء يحمل ذبذبة الكلمة
بحرفية وبراعة
حتى قطع الشكولاتة التي أغلّفها بعناية
تاركة عليها ملصقًا
يحمل تاريخ صلاحيتها ومكان نشأتها
والدم الذي ينزف من ركبتي في رحلة الوعورة إلى جبال سامقة
كل إلى مكانه، وأنا لك أمضي
حتى أن الله في الأعالي
يترك لي رسائل
في أي شيء أصِله
بخمس قطط على بابي في الصباح القارص
وعلى نحو أكثر رقة،
في بقايا القهوة
بالفناجين.
*
قرب أنهار غريبة
حيث الماء يَخرُّ فوق حجارة مصقولة
والهواء الرطب على مقربة،
يتكون
تَمَدد فوق أي أرض
وسينمو الصفصاف بقربك
وتقوم من حولك الحضارات
في الصحاري
أو في الجبال
على صخرة ناتئة
أو في سهل رحب
كل شيء سيدل عليك
الشمس والرياح
الأوراق والقيثارات
حتى أناشيد الحقول
في حناجر الرعاة
وفي مُحيّاهم؛
عندما يصمتون.
*
وددت أن أكف عن مناداتك
لولا أنك تبتكر مجيئًا في كل شيء
في كل نسخة أعرفها منك
وفي كل حياة قادمة سأكون بها
سمّيتك الجنوب
مصائر مدفونة بكل جلاء في صخور هائلة
ودروب وعرة إلى الأعالي
هناك من يسمّي الانطفاء هدوءًا يا حبيبي
من يظن السطور مصمتة على جبينك
والعروق الحمراء عادة،
في عينيك
أردت لك صبحًا يفي بالنذور
شروقه بسبع شموس
لتختار النهار من حيث تشاء
وببراعة قطرة ماء
تختفي عندما تجف.
*
يرمم الاعتياد القلق
مثل قشرة قاسية
تُغلق جرحًا ما.
طوال الوقت
يمكنني تحسس التعافي في ملامحي
كيف ينتفخ كدرنات
تخفي وراءها شقوق اللوم والمغفرة
هاك قلبًا رائعًا
أمسكه وأنت مغمض
قل لي دون أن يربكك التشابه
ألا ينقصه فحيح رفيع!
وضعتُ زجاجتين في كل رأس
في رؤوس الجبال
والأفاعي
والبصل
ورحت أنسكب منهما
مثل غيمة ثقيلة
عندما سوّد الحزن قسماتي.
*
مثل البرودة تعتلي جسدي
مثل الضباب الرقيق
تحاصرني بالبياض
الذي لا يُجمع ولا يُحاط
مُد أصابعك البعيدة
لأعرف كيف تتخلى
كيف تُفلت يدًا
أو قطعة خبز
أو لوّح لي مرة
بعينيك البريّتين
كآخر وجهة نظر أحملها
عن الأشياء
لأرد بِحُبِك للكواكب القصوى فُتاتها
وأرضى بالمطر الذي يهطل خلف نافذتي في آخر الليل
كمقطوعة مفضلة.