01-أغسطس-2016

(Getty) مشهد من حلب

هذا النزيفُ ينزُّ من جفنِ الطبيعةِ

والغيوبِ

ومن خفايا الكونِ واللوحِ الحفيظِ

وساقِ آدمَ عندَ أوّلِ مهبطٍ

فتكسّرتْ في الأرضِ آنيةُ الغروبِ

وسالَ في كلّ المسالكِ والدروبِ

دمُ النهايةِ والمِهادِ

هذا النزيفُ

أشعّة ٌسطعتْ من الأكوانِ

والرحمنُ يطويها

وينهيها

وينثرها

فضاءً من رمادِ/

هذا النزيفُ

عصارةُ الأوجاعِ

من رفعِ الستائرِ

عن مسارحِ ما نرى

هذا النزيفُ

صليلهُ من ريحِ عادِ/

أصواتُ شعبٍ عندَ جلجلة القيامةِ

بعدَ زلزلةِ المدى

هذا النزيفُ

سوارُ طفلةِ ملجأٍ يـدُها رغيفٌ

يطعمُ الناجينَ من أولى المراحلِ

في سباقِ الموتِ

هذا آخرُ القبلاتِ من شفةِ البلادِ/

رئةٌ معلّقةٌ بعرشِ اللهِ

تقطعها السيوفُ

سفارة للوحي تغلقُ بابها

ثقة الجذورِ بأرضها

هذا النزيفُ

ومـَـن بهِ هذا النزيفُ

يرى الحياة صحيفةً خرساءَ

يكتبها بما تعطي المواجعُ من مِـدادِ/

هذا النزيفُ

بكلِّ سوريٍّ

ينادي/

هذا النزيفُ بكلّ سوريّ

بوادِ الخوفِ

يخلعُ نعلهُ

ويصيحُ من جمر الحياةِ

وينثرُ الآهاتِ آمالًا

ولا أذنٌ مقدّسةٌ بــِـوادِ/

هذا النزيفُ

تمرُّ قافلةُ العروبةِ منهُ

وهي تغادرُ الصلواتِ والآياتِ والصهواتِ

خارجةً كآخرِ نكهةٍ للأرضِ من مطرِ البوادي/

هذا النزيفُ على حلبْ/

لحجارةٍ بيضاءَ يحرقها اللهبْ/

لمعابرٍ كثقوبِ ثوبٍ يجمعُ الآلافَ فيهِ

مقيدينَ ومتعبينَ وكاشفينَ صدورهمْ

للطائرات ِ

وللمخالبِ والوحوشِ

مدينةٌ تلدُ النعوشَ

مسنّنُ الآلاتِ يهرسها نزيفًا من عنبْ/

خمرٌ بهذا الموتِ والسَّـكـْرى حلـــبْ

حالُ المغنّي غابَ عنْ فمهِ حلـــبْ

ماذا ستكتبُ في وصيّتها حــلــبْ؟

عن يومها وقذيفةِ الهاونْ

والعالمِ الخائنْ

وطلاقها البائنْ

من عالم ٍخائنْ

ماذا تركنا، هل تركنا من أمانٍ أو أغان ٍ

للغدِ المسبيّ، للأفقِ الملغّمِ بالمصائبِ والخرائبِ

هلْ تطهـّـرْنا ولو يومًا

من الذنب المعلّقِ في نواصينا سلاسلَ من دماءِ/

الكاستلّو مغلقٌ

لا شيءَ يدخلُ للمدينةِ

لا غداء لا عشاء

كيفَ يأتي الموتُ

لا ندري

ويشبعُ من بطونٍ جائعاتٍ

من رئاتٍ تشهق الساعاتِ سمًّا من هواء/

وقعتْ بطرفِ الحيّ قنبلةٌ فهاجَ الحيُّ

ينتظرُ انكشافَ غبارها

أمٌّ تعدُّ مخاضها

كم مرّةٍ ولدتْ

وطفلٌ يأكلُ الكلماتِ: "ماما"

علّـهُ يرتدُّ صوت الروحِ فيهِ

وطاعنٌ في السنّ يمسكُ كلَّ ذاكرةِ السنينِ بقبضةٍ

ويخرُّ كالشجر الحزينِ

فها قد انكشفَ الغبارِ مخلّفًا

رأسًا بلا جسدٍ

وساقًا في بقايا السطحِ عالقةً

وكفًّا لا تزالُ الروحُ فيها

تسحبُ الأستارَ نحوَ الجسمِ من فرطِ الحياءِ/

تتبعثرُ الأجسادُ

يأتي المسعفونَ

فيـُـقـصَفونَ

تطيرُ أرواحٌ وتهبطُ في سماءِ اللهِ

قلبي في شوارعها حروفٌ للعزاء/

الكاستلو مغلق

وأبٌ يجمّعُ ما تناثرَ من جسدْ

بينَ الركامِ

فيلتقي بعيونِ ابنتهِ

ويبكي عندَ أوّلِ قطعةٍ

حتى إذا اكتملَ الجسدْ

يستلّ أبرتهُ لينسجَهُ

ويخرجَهُ

إلى قبرِ السماءِ قصيدةً حلبيّةً منظومةً

وهناكَ شيخ ٌجالسٌ في ساحةِ البابِ القديمِ

يراقبُ الأفراحَ في القسمِ السليبِ من المدينةِ

يبعثُ الزفرات نارًا تأكلُ الليلَ الثقيلَ

هل المدينة ترتدي وجهينِ من فرحٍ ومن ترحٍ

وهلْ للموتِ في هذي المدنيةِ حكمةٌ: أنّ القبورَ تحبّ حضنَ الطيبينَ المتعبينَ؟

أطلْتَ يا عم التأمّلَ لا عجبْ

من رقصةٍ الجنديّ إنْ ذبحتْ حلبْ

يا عمّ إنّ الحقلَ ينبتُ زهرةً أو شوكةً

فـلِم العجبْ؟

من رقصةِ الجنديّ إنْ ذبحتْ حلبْ/

الكاستلو مغلقٌ

وقويقُ مشغولٌ بتمشيطِ الضفائرِ للعروسِ

فعرسُها هذا النزيفُ

على القنابلِ والدفوفِ

تـُساقُ من يدها إلى عرشِ الفناءِ/

الكاستلو مغلقٌ

وقويقُ للموتى يصبُّ الماءَ

يغسلُ أعينَ الشهداءِ

يحضنهم كأطفالِ حريريّينَ

جاؤوا من أراجيحِ المشقّةِ والعناءِ/

وقويقُ مشغول

وقويقُ مسؤول

عن مائهِ

فبهِ ملائكةٌ تـُـغسِّلُ بالندى

وبهِ شياطينٌ تبولُ/

الكاستلو مغلقٌ

أشتاقُ أنْ أمشي إليكِ

مجرّدًا من هذهِ الأبعادِ

من غيبي ومن لغتي ومن رئتي ومن روحي

وأمشي فيكِ

في شققِ المباني

في الشوارعِ

في الأزقةِ، في الدمارِ

وفي شقوقٍ في الجدارِ

وبصمةِ الإبهامِ

نعلِ الخائفينَ

أتصبحُ الكلماتُ أنفاسي لأكملَ ما أقولُ/

لو أنني ملكُ التقمّصِ لاستحلتُ غلافكَ الجويّ

أو صحنًا فضائيًا يلمّـكِ من ترابكِ

ثم يعلو فيكِ للعدمِ الحقيقيّ النقيّ من الوجودِ

وأشتري لكِ وردةً تسقيكِ من كفّ الخلودِ

فسامحيني إنّ ذاتي ليسَ يكفيها الوجودُ

ولمْ تجدْ غيرَ الوجودِ لكي تتممَّ ما تقولُ

ولا على المجنونِ من حرجٍ

دعيني أشتهيكِ كرعشةِ الملسوعِ من نهدينِ

ناما في حقولِ الياسمينِ وأيقظا جنحي

دعيني أشتهيكِ كغيمةٍ شقراءَ

تبعثها فتاةٌ وهي تحضنُ صدرها من غيمةٍ هطلتْ عليها

أشتهيكِ كما تذوبُ محطـة المترو برفّةِ شعر فاتنةٍ

وقدْ بعثَ القطارُ هواءهُ

كمْ أشتهيكِ لكي أتمّمَ ما أقولُ/

حلبٌ تغيبُ ولمْ يزلْ فيها شروقي

لم تزلْ فيها الكناية والبلاغة والقوافي

لا تخافي

فيكِ يمشي الشعرُ

فيكِ السيفُ

سيفُ الدولةِ ابتدأ المساءَ بأمسيةْ

وخيولهُ تحصي العدوّ وتفريَهْ

لمْ يبقَ من أثرِ المغولِ سوى الغبارِ على فمِ التاريخِ

واندثرتْ نعالُ الشَّعرِ

فاحتملي

سنفتتحُ التجارةَ

ترجعينَ مليكةَ الدنيا

هنا خانُ الحريرِ

وذاكَ دكانُ التمورِ

وتلكَ أسرابُ الطيورِ

وذاكَ صوفيٌّ ضريرٌ

يرفعُ الآذانَ

        سيكا، رست

 أو بالنهاوند

وجاءنا بابا نويلُ

ووزعَ الحلوى لأطفالٍ

على يدها غسيل

للوضوءِ

وهزّني شوقٌ ثـقـيلُ

كيفَ أكملُ ما أقـولُ/

 

الكاسيتلو مغلقٌ

والموتُ يكتبُ قصةً

حلبٌ وحمصُ

دمشقُ، درعا

والفراتُ

وإدلبٌ والغابُ

أسماءٌ لتخليدِ النزيفِ

وقمة عربية ٌ

ماتتْ وتخدعُـنا

بعكازٍ تسنــدها

وتخفي موتها

فلْتأكلِ الأرضُ العصا

لتثورَ كلّ الجنّ والعربيُّ

يخرج من تبنـيهِ السرابَ

ويسلخَ الأثوابَ

يخرج عاريًا حرًا

أمامَ الموتِ

لا جهة تحدّدُ شكلَ قبلتهِ

ولا علم يساومُ سهمَ نظرتهِ

ولا فكر يسمّمُ غازَ شهقتهِ

ويصبحُ طاهرًا هذا النزيفُ/

هذا النزيفُ بمنْ طووا الأمعاءَ جوعًا

بينَ آلافِ الكرومِ المدلهمّةِ بالظلامِ

يرونها بحنينِ خـفـْـقَــتـِها

فما زالتْ بها آثارُ أيديهمْ

وهمْ يسقونَ تربتها بما يعطي النزيفُ

وقد أتوها متخمينَ بجوعهمْ

هاجتْ دبابيرُ الظلامِ بوجههمْ

فتوسدوا الأمعاءَ خاوية وناموا/

هذا النزيفُ بمنْ بنوا في الأفقِ

أبراجًا يكلّلها الحمامُ/

هذا النزيفُ بكلّ سوريٍّ

على صخرِ التأمّل واقفًا

في آخرِ الآفاقِ ينشدُ للحياةِ خلودَها وصعودَها

من وردة شاميّة في كفّ أجيالٍ أقاموا

حفلةً قد زيّنتْ برسومنا وقبورنا

هذا النزيفُ لمن سيتركهُ الظلامُ/

أملٌ

 بهِ عملٌ

       لهُ شللٌ

           بهِ طللٌ

               بهِ خوفٌ

                    لهُ طيفٌ

    بهِ قدرٌ

لهُ شررٌ

بهِ قمرٌ

بهِ أملٌ

يفتّحُ نورَهُ هذا النزيفُ/

فجّرْ جذورَ الشعرِ في الجسدِ المعذّبِ

كسّرِ الأقلامَ والأعلامَ والأوهامَ والأيامَ

واتركْ هذهِ الأكوانَ يغسلها النزيفُ

في كلّ سوريّ نزيفُ/

هذا النزيفُ/

هذا النزيفُ/

 

اقرأ/ي أيضًا:

أتأبّطُ فِردَوْسًا

جثث أضناها الحلم