لم أستيقظ اليوم إلا لأكتب عن إيلون ماسك والجباية التي يعتزم فرضها من أجل علامة تحقق زرقاء على الحسابات في تويتر. لكني قررت أن لا أفعل، وأن أعود قليلًا إلى مأساة حصلت قبل أربع ليال، جنوب شبه الجزيرة الكورية، في العاصمة سول، وأخرى مماثلة من حيث عدد الضحايا، في جنوب القارة الآسيوية.
قبل العاشرة ببضع ساعات، وردت لأقسام الشرطة عشرات المكالمات، تحذّر من كارثة محتملة. لم يستجب أحد
في ليلة التاسع والعشرين من الشهر المنصرم، تجمّع عشرات الآلاف من الناس، قرابة 100 ألف من البشر بحسب تخمينات رسمية، معظمهم من الشباب، للاحتفال بعيد الهالوين. المكان بالتحديد هو حيّ "إتايوون"، وجهة الباحثين عن المتعة وحياة الليل، والانكشاف للأجانب الذين يعجّ المكان بهم، والحديث باللغة المشتركة التي يكاد لا يسمع سواها هناك. الإنجليزية طبعًا، صحيح. أما الوقت، فهو العاشرة مساء بالتوقيت المحلي.
قبل العاشرة ببضع ساعات، وردت لأقسام الشرطة عشرات المكالمات، تحذّر من كارثة محتملة. لم يستجب أحد. بعد العاشرة بقليل، وقعت الواقعة، بعد تمازح بعض من أعياهم الشراب، وتهادي أجسادهم الثقيلة بعضهم على بعض. لم تحتج الكارثة سوى سقوط واحد أو اثنين بين آلاف محشورين في أزقّة ضيقة بعد أن أغراهم دفء تلاصق تلك الكتلة من البشر في ليلة باردة، بعد أكثر من عامين على الحرمان من التقارب بسبب كوفيد-19. الأثر كما وصفه شهود عيان، كان أشبه بأثر تساقط حجارة الدومينو.
المكان حيث وقع التدافع المميت، كما يظهر أعلاه، هو زُقاق جانبي، قرب محطة مترو "إتايوون"، يصل بينها وبين عدد من البارات والنوادي والمطاعم، التي فرّ كثيرون إليها هربًا من تلك الميمعة المفجعة، التي راح فيها زهاء 150 شخصًا وعشرات المصابين، وأعلن إثرها عن حالة من الحداد الرسمي في كوريا الجنوبية.
مأساة أخرى.. جنوب القارّة
بُعيد المأساة التي شهدتها العاصمة الكورية، وردت أنباء أخرى عن مصرع أكثر من 130 شخصًا في حادثة انهيار جسر للمشاة في ولاية غوجارات غربي الهند، في مدينة موربي التي يعبر بها نهر ماتشو. بحسب التقارير، فإن أكثر من 200 شخص كانوا على الجسر لحظة انهياره، وبحسب بعض مقاطع الفيديو التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، حصلت حركة غريبة على الجسر قبلها، افتعلها عدد من الشباب الذين بدأوا بهزّ الجسر بشكل عنيف قبل انهياره بمن عليه من البشر، بعد انقطاع عدد من الكوابل.
قبضت السلطات الهندية على تسعة أشخاص، لهم ارتباطات بشركة هندية كبرى تدعى "أوريفا"، مختصة بصناعة الساعات والإلكترونيات، وذات علامة تجارية معروفة. رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي وعد بصرف تعويضات لأسر الضحايا، بما يعادل 5000 دولار أمريكي عن كل فردٍ فقد حياته في الحادثة.
هذه أخبار أصبحت بائتة اليوم، لكنّ التفاعل معها إعلاميا وملاحظة بعض الفروق في تغطيتها يحيل مجددًا إلى آليات التمثيل والصور النمطية والاستخفاف الصحفي في الاتكاء عليها، وما يظهر أنه تباين كبير في حجم التغطية ونوعها، رغم تشابه الكوارث في بؤسها وعدد ضحاياها. ففي حالة كوريا الجنوبية، تطرقت العديد من التقارير مثلًا إلى صفة عجيبة ألصقت بالكوريين، لا أستطيع الحكم على دقّتها، ترى أنّهم "شعب معروف بالانضباط" (تقرير للجزيرة الإنجليزية)، وأنهم أثبتوا التزامًا استثنائيًا بقواعد التباعد الاجتماعي والحجر الصحي أثناء جائحة كوفيد-19، ولذا فإن ما حصل، هو شذوذ عن قاعدة، ما كان يجدر أن يحصل لمثل هؤلاء البشر.
هذا التنويه إلى طبيعة الكوريين المنضبطة كان اتجاهًا حاضرًا في التغطية الإخبارية للحدث، وكأنه إضافة تلقائية يجب افتراضها لتسويغ الاهتمام الكبير بمتابعة ما حصل، ولفت عناية المستمعين والمشاهدين إلى أن الخبر يستحقّ عنايتهم ووقتهم، ولذا نرى كيف تمت إعادة تمثيل مشاهد من الحادثة كما وقعت، إطارًا بإطار، ولحظة بلحظة، فهذا الحدث "نادرٌ" وقد لا يتكرّر هنا. بدا ذلك أوضح عند مفارقته بحدث مماثل متزامن، حصل في قرية هنديّة بعيدة لا أحد يحفظ اسمها.
ومن كوريا الجنوبية، من الميدان، اهتمت صحف وقنوات إخبارية بتتبع أثر "الصدمة الجماعية" في المجتمع الكوري إثر الفاجعة، والمنشورات التي يكتبها الكوريون حول حالة الرعب والقلق جراء تعرضهم لسيل الصور ومقاطع الفيديو التي توثق اللحظة الأليمة وتعرض صور الجثث المترامية وأغراض أصحابها وملابسهم وحاجياتهم الخاصة. البعض، بحسب الواشنطن بوست وغيرها، بدأوا يتحدثون عن معاناة نفسية فظيعة من الكرب التالي للصدمة، تمثلت لدى بعضهم على شكل نوبات فزع وبكاء وغثيان وكوابيس وإعياء. تقارير إعلامية أخرى تابعت حملات توعية شعبية ورسمية تناشد الناس بتجنب نشر الأخبار المتعلقة بالفاجعة، لمساعدة الناس على تجاوز ما حصل. أما الخبراء، فيواصلون حتى اليوم تحذيراتهم من أن "أثر دومينو" نفسيًا على وشك أن يغير مصير عشرات الآلاف من الكوريين، خاصة أولئك الذين كانوا في محيط مكان التدافع بين المحتفلين بالهالويين. حتى الجمعية الكورية للطب النفسي، بادرت وأصدرت بيانًا عاجلًا للتنبيه بمغبة الاستمرار في تذكّر الملمّة التي وقعت، وبذل كل ما أمكن لتوفير الدعم النفسي لأسر الضحايا وشهود العيان ومن كانوا قرب المكان، إضافة إلى الأطباء والممرضين والمنقذين الذين تعاملوا من الضحايا والمصابين.
وهكذا دواليك، كل قصّة من الميدان من كوريا الجنوبية تشرّع الباب على قصص أخرى، من السياسات العامة لإدارة الحشود، إلى ظاهرة الاحتفال بالهالوين وتزايد الاهتمام بها بين الشباب في كوريا الجنوبية في السنوات الماضية، إلى واقع الأزمة النفسية والاجتماعية بعد فترة الجائحة في البلاد، وغيرها العديد من عشرات الزوايا التي غطتها الصحافة العالمية (الناطقة بالإنجليزية) بزخم كبير نسبيًا، وبقدر يستحق الثناء حقًا، من الأنسنة الصحفية واستخدام تقنيات السرد، وصحافة البيانات وقصص الويب، جنبًا إلى جنب التغطية المباشرة.
الحديث عن هذا التباين في التغطية رافقنا هذا العام أكثر من أي عام سبق، لاسيما بعد اندلاع الأزمة في أوكرانيا وبدء العملية العسكرية الروسية الخاصة هناك، والتي تزامنت هي الأخرى مع تزايد وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين في الضفة الغربية، والغارات التي نفذها جيش الاحتلال ضد قطاع غزة المحاصر، وراح ضحيتها العشرات من المدنيين، وهو واقع ذكّر كثيرين بتلك "الحياة التي تستحق العزاء العام"، في وسائل الإعلام الغربية. فهل يمكن سحب ذلك على ما حظيت به كوريا الجنوبية من تغطية وتعاطف؟
ربما. ليست كل الحيوات قيّمة بالتساوي اليوم. ألم يمت مئات أيضًا قبل أيام في تفجير انتحاري في مقديشو، هل لديّ اليوم أو لدى أي قارئ لما أكتب أي تصوّر واضح عمّا جرى هناك؟ عن مكان الحادثة وشكله، وشكل الضحايا ولونهم، والكرب الذي حلّ بذويهم وبمن كانوا صدفة في مكان التفجير؟ وهذا ليس انطباعًا عامًا وحسب، بل هو أمر تؤكّده بعض الدراسات، التي وجدت أن وسائل الإعلام الأمريكي تهتم أكثر (طبعًا) بحوادث يذهب ضحيتها أمريكيون أو تستهدف مصالح أمريكية، أو الحوادث التي تقع في بلدان قريبة من الولايات المتحدة ماديًا وثقافيًا. هنا يصبح ادّعاء أن "الدماء تضمن فاعلية الخبر" مشروطًا بالإجابة على عدة أسئلة: "دماء من؟" و"بسلاح من؟"، و"على أرض من؟".
الغرابة والندرة قد تؤثران أيضًا على زيادة العناية ببعض الحوادث الساخنة. ينطبق هذا مثلًا على حادثة كوريا الجنوبية، التي تعدّ من أكثر الدول أمنًا في العالم، أو حادثة إطلاق نار في الدنمارك. لعمر الضحايا أيضًا دور في منح أولوية للتغطية واهتمام أكبر بها، مثلما حصل بعد حادثة نحر 23 طفلًا في تايلند في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. ثمة أيضًا عامل غير موضوعي، وهو "امتياز الآكسيس"، أي قدرة الصحفي (الغربي عادة) على التواجد السريع في المكان، وقدرته على التواصل مع الأشخاص المحليين والتعاطي معهم، وهو ما قد يبدو أسهل مثلًا في كوريا الجنوبية مقارنة بقرية نائية غربيّ الهند. هذه اللغة المشتركة، تعدّ شرطًا من شروط الألفة والتواصل الميسّر، وهي جزء من العُدّة غير الصحفية للصحفي، أي عُدّة "الامتيازات" التي بفضلها تفتّح له الأبواب حتى لو لم يطرقها، مثل الجنسية واللون واسم الصحيفة التي يعمل لصالحها.
ثمة حالة من الاستقطاب العالمي "الجديد" ينعكس أثره على واقع الصحافة بحسب تعبير "مراسلون بلا حدود"
ربما ستتلاشى القدرة التفسيرية لازدواجية المعايير في الإعلام الغربي تجاه القضايا العالمية، مع ملاحظة التعقيدات الجديدة المتسارعة، من صعود أباطرة الأعمال إلى أعمال الإدارة اليومية الدقيقة لمنصات التواصل الاجتماعي، مثل تويتر، وحالة الاستقطاب العالمي "الجديد" بحسب تعبير "مراسلون بلا حدود" في تقريرها الأخير، وتصاعد أنماط جديدة من التضليل والتحيّز الإعلامي في ظل استمرار صعود اليمين المتطرف في الولايات المتحدة وأوروبا. والحال ليست أفضل عربيًا، بما هو حاصل لدينا من ارتكاس على قيم الربيع العربي، والانجراف بعيدًا عن حلم التحوّل الديمقراطي وتضاؤل فرص تطوير المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية، والركون المتواصل إلى الأمننة الشاملة والمعولمة، لضمان استمرار الاستبداد المفيد.