11-يوليو-2023
توسع الكون

 

“إنّ الرياضيات المجرّدة لهي دِيانة"..  نوفاليس

يُعلّمنا تاريخ الأفكار ألاّ نُدير أظهرنا للفيزيقيين. فتحْتَ أكمامِهم ما تحتها. ومن ذلك قدرتهم على بلبلة تواريخ الأفكار. فمن دهشة الكون الأولى أسّس الأكوانيون الفلسفة في اليونان والهِند. وبيّن ابن رُشد في مناهج الأدلّة انبناء الإلهيات في عصره على فيزياء الكون كما ُفسّرها دليل الحُدوث، وفيزياء الأجسام تحت الذرّية، كما فسّرتها مقولات الجواهر والأعراض. ومع كوبرنيكوس وغاليليو ونيوتن استدارت الثيولوجيا وقدّمت صورةً ميكانيكيةً للصانع وللكون. ولا يُنظر إلى الوضعية المنطِقية التي سادت في القرن العشرين أنّها حركة فيزيائية، ولكن روادَها، وبالأخص شليك وكارناب كانوا فيزيائيين قرّروا تسريح الفلسفة وتعبيدها للعلوم بأن تنقّح بنيتها المنطقية. وبتحالفهم الفكري مع الرياضيين والمناطِقة، كفريجة ورَسِل وفيتنغنشتاين وآيَر، راموا القضاء على الميتافيزيقا وحوّلوها إلى المسكوت عنه أو لمبدأ التحقّق (verification) والتحليل، وباختصار للمنطق والتجربة. وبلغت هذه العملية مداها بانتزاع الفيزيائيين لعلم الكون (الكوسمولوجيا) من الفلسفة نهائياً منذ ستينات القرن الماضي واقتسموه مع الفلكيين. ومن يومِها اكتمَل تحرّر العلم وعُهِد بمفاتيح الكون إلى الفيزياء.  ذلك أنّ علم الأحياء فسّرته الكيمياء، والفيزياء تُفسّر الكيمياء. فلا يبقى إلاّ انتظار كلمتها النهائية لتُعرَف قصة الكون.

في الحياة العامة كان للفيزيائيين تأثيرٌ مشابِه. ففيزيائيو القرن العشرين وجدوا أنفسَهم في لبّ المشاكل الفلسفية والسياسية

في الحياة العامة كان للفيزيائيين تأثيرٌ مشابِه. ففيزيائيو القرن العشرين وجدوا أنفسَهم في لبّ المشاكل الفلسفية والسياسية. ناقش آينشتاين برغسون في 1922، واستبدل زمانه الذاتي/الموضوعي بالزمان الخارجي الموضوعي (الذي يتأثّر بحركة الأجرام للتأثير بينها وبين مجالات الجذب، والتي تؤدّي دوراً رئيسياً في تحيّز المادة ونسيج الزمكان، وتتغيّر وتيرته بضغط الطاقة والكتلة). كما خاض علماء الكوانتوم والنسبية المعركة ضدّ النازية. فجعلهم هذا يشعرون أنّهم قضوا على أخطار القرن العشرين: الروحانية والهمجية. وسرعان ما تحوّل تفاؤلهم إلى ثقة مفرطة. أعلن ستيفن  هوكينغ نهاية الفلسفة وأنّها لم تُقدّم شيئاً منذ ثلاثمائة سنة. وعبّر ستيفين واينبرغ عن عدم راهنيتها. وفي الثمانينيات زرع كارل ساغان، الذي كان فلكياً، الشكّ بتوجيه الثقافة العامّة إلى الإلحاد النضالي؛ وتفعّمت هذه الحركة لاحقاً بالجناح الفيزيائي من حركة الإلحاد الجديد كنيل ديغراس تايسون ولوران كراوس، وحتّى الوقور ستيفن واينبرغ؛ وأصبَحوا ينعِشون المجالس بتعيير اللاهوت. وفي السياق العربي يبدو أنّ المثقّفين الفيزيائيين، الذين بقوا متعالين على الصراعات الفرقية والنقاشات العمومية، صاروا يصطدِمون من حين لآخر ببعض المتكلّمين وبالفهوم الشعبية فتحدث بذلك شوشرة لاهوتية.

2) 

غير أنّ الفيزيائيين، الذين نقصد بهم الأكوانيين والكواكبين وبعض الفلكيين والأنجميين ودارسي الجسيمات تحت الذرّية والكمومية إلخ، لم يتهنّوا بوأد الفلسفة؛ وسرعان ما دخلوا في منعرج فلسفي، بل وثيولوجي (كلامي). صحيح أنّهم لا يخلصون إليه بالتأمّل (speculation)، بل بالحساب والتجريب. ولكن الفيزياء النظرية والأكوانية أصبحَت تُنتقَد، كما في أعمال صابين هوسِنفَلْدَر، بالشطط في تغيير معاملات النظرية بحيث تداخلت مع مقولات الدّين. فنظريات تعدّد الأكوان والأوتار والفقاع عامرة باللاهوت لغياب برهنتها، وقد أعادَت الناس إلى نقاش تعدّد ووحدانية الآلهة والطاقة وقوانين وبنية الكون. ومقولات انقباض وانبساط الكون وتمدّده وطيّه تعيدنا لمسألة الدّين والعِلم والأزلية والقيامة. ومقولات نسبية وانبثاقية الزمان تعيدنا إلى نقاشات الفلسفة للزمان وهل هو ذاتي أم موضوعي.

ولو نُظِر إلى المشهد الفيزيائي بأعين العامة لبدا لهم من كُتب المِلل والنِّحَل القديمة. ولرأى فيهم فِرقةً بلانكية تقول بربّانية الطاقة؛ وفرقة آينشتاينية تقول بإله سبينوزي هو قوانين الكون. وفيهم فرقة هوكينغيّة تقول بحدوث العالم، تنشقّ عنها فِرقة بينروزية تقول بقِدمَه؛ تنشقّ عنها فِرقة إفريتية التي تقول بتعدّد الأكوان؛ وتنشقُّ عن ذلك فِرقة تيغماركية ترى تعدّد الأكوان المتعدّدة. وفيهم فرقة تؤمن بالمتفرّدة (singularity) حيث تتوقّف حساباتنا وتنشأ قوانين الفيزياء؛ وفيهم فِرق تنكرها أو تُعدّدها. وفيزياء الكم تفسّرها بالطاقة؛والفيزياء العامة تُفسّرها بالثقوب السوداء؛ وفيزياء الكم لا تؤمن بالفراغ بينما تثبِتُه الفيزياء الكلاسيكية. وفيهم فرقة الكراوسية التي تقول بشيئية المعدوم، وفرقة النشوئية التي تقول بالفراغ. وفيهم فرقة تقول بالتحقّق الموضوعي للرياضيات؛ وتتساءل هل كلّ ما يوجَدُ في الذهن يوجد في الواقع وعليه فتوجد أكوان لا متناهية بقدر ما لا تنتهي إمكانية تصوّرها. وبعضُهم يقُول بتحقّق اللانهائي، وبعضُهم يقول باستحالته. وفيهم فرقة تقول إنّ للكون وعياً. واختلفوا هل هو العقل الكُلّي أم كُلّيات الرياضيات أم ما سمّاه فيزيائيو القرن التاسع عشر وصدر العشرين بأنّه الطاقة العليا أو ألاودية أو المُشّعة إلخ. هل هي القوة الشاعرية كما عند ألفرد وايتهيد، أم القوّة المتطوّرة كما عند تيلهار شاردان، أم هي القوة المنتظمة المتناسق عند آينشتاين؟ هل نعود لمقولات اللوغوس أو العقل الفعّال والكون العاقل والعقل الكُلّي ووحدة الوجود؟ 

من شأن هذا الاجتزاء أن يظهر تداخل الكوسمولوجيا الحديثة بالقديمة. فالفلاسِفة والمتكلّمون خلقوا تاريخاً خطابياً يبدو أنّ الفيزياء لم تقدِر كليّة على تجاوزه. بل إنّها صارت تُجدّد، دون وعي، النقاشات الكلامية القديمة. فالمتكلّمون ناقشوا مثلاً تعدّد الأكوان. وظنّ الفخر الرّازي أنّه متضمّن في مضمون "ربّ العالمين". فلمّا ظهرت مقولات الفيزياء عن لانهائية العوالم قرأها المتكلّمون والفلاسفة، كدافيد لويس مثلاً، على أنّها إيحاءٌ بانفصال الأكوان بحيث لكلٍّ منها قوانينه الفيزيائية وحتّى "آلهته" المختلفة المستقِلّةّ! وفيهم من قدّم قراءة كلامية أخرى: أنّ نظرية الأكوان المتعدّدة تنبّهنا إلى جوانب جديدة عن القدرة اللانهائية للصانع. وقل نفس الشيء عن حدوث وقدم العالِم، التي تتيح فيزياء الكم والفيزياء الكلاسيكية لها إجابات مختلِفة. كان ابن سينا قد قام في هذا الشأن بحركة مثيرة فمن ناحِية ألغى الكون لُيثبت الله من خلال تمييز الوجود بالحقيقة والإمكان، ثمّ عادَ وأثبتَ ضرورة قِدم الكون من خلال تنزيه ذلك الصانِع عن الزمان المرتبط بالحركة والنقصان وإتاحة دور سلس للفيزياء والطبيعيات. ويُقال إنّ هذا اللاهوت قد انهزَم مع الغزالي. ولكن، وكما بيّن أكثر من دارِس، فحتّى ابن تيمية استدخل ميتافيزيقا ابن سينا بإثبات قِدم العوالم في مقولة الجمع بين حدوث العالم وأزلية فِعل الخلق. وكان ابن رشد قد نبّه إلى أنّ القرآن لا يقدّم الحدوث، بل يتحدّث عن خلق الكون من مادة قبلية، كما في سورة الدخان وكما في مفهوم العرش والماء إلخ. 

يلتحِقُ العموم بالجدالات الفيزيائية مستعينين بمخيال كلامي وفلسفي عريق وذلك لتطابق الأسئلة بين هذه العلوم. فهل للكون طبيعة حاكِمة؟ هل هي الطاقة الغامضة كما اقترح ماكس بلانك؟ أو الوعي المتجسّد كما اقترح نيلز بور؟ ما هي أدواتها الكونية: هل هي الضبط الدقيق (fine-tuning)؟ هل هي المادة السوداء، التي، وإن اتضحت نظرياً، فلا إثبات تجريبي لها؟ فهذه نقاشات ساهم فيها الكلام والفلسفة. فابن سينا نفى عن العِلة الأولى المادية، بحيث لو قُدّر لرجل فضاء أن يجول في كل الكون لما اصطدَم بها. كما أنّها نقاشات أفلاطونية: فهل للرياضيات وجودٌ موضوعي؟ حاجِج روجر بينروز بالإيجاب. ولكن وكما تصِف الرياضيات عالمنا بدقة فإنّ معظمها يصِف أشياء غير مفهومة أو معلومة. فهي تُشبه بنية الكون من حيث معادلاتها الدقيقة التي تطابُق الواقِع ولكنها تشذّ عنه بمادتها السوداء من المعادلات التي لا تُفهَم وإن كان يُشعَر بها.

3) 

في أوْجِ العصر الوضعي، وحتّى عهد قريب، لم يكن يُسمَح للمتكلّمين، وحتّى الفلاسفة، بالكلام في الكوسمولوجيا بحضرة الفيزيائيين. ولكنهم استُدعوا بعد إخفاق الأكوانيين في حلّ معضلة الكون. ولهذا علاقة بالحرب الكلامية بين الفيزيائيين أنفسهم. فرغم الفتوحات الكوسمولجية للنسبية العامة إلاّ أنّ آينشتاين نفسه لم يُقدّرها حقّ قدرها وظلّ، رغم إلحادِه، يحتفِظ ببعض المسلّمات "الكلامية" الخفية. فرغم أنّ النسبية العامة أتاحت كوناً متمدّداً وغير ثابت إلاّ أنّه قاوَم هذا وظلّ لحينٍ يثبت كون أرسطو الثابت والسرمدي. ولكن معاصِريه، وأوّلهم- للمفارقة- اللاهوتي جورج لوميتر، أثبَت، انطلاقاً من أعمال آينشتاين، امتداد وتسارع الكون. ولاحقاً أثبتَت هذا حسابات أدوين هابل ثمّ فرضية الانفجار الكبير، التي ترى الكون منطلِقاً من نقطة ابتدائية تمدّد بعدها  منفتخاً في شكله الحالي.

ولكن الأزمة اللاهوتية للفيزياء تتجلّى في مسألتين: الأولى التناقٌض بين فيزياء الكم والنسبية (وبالأخصّ في الثقوب السوداء حيث تسمح النسبية بفقدان المعلومات عكس ميكانيكا الكَم)؛ فقد قامتا على تصّور مختلِف لطبيعة الكون ومنشأه، علاوة على قيامها بقوانين مختلِفة، فتجزّأت قوانين الكون. والثانية أزمة فرضية الانفجار الكبير. فرغم أنّه لم يُجمع على هذه الًفرضية إذ لا تقول بها فيزياء الكم عموماً وتُقول بها التفسيريات التقليدية للنسبية العامة (خلافاً لتأويلات بينروس). إلاّ أنّها شكّلت لوقتِ ما إطاراً مشترَكاً بين الجميع، مؤمنين وملحِدين. كان معظم فيزيائي الانفجار الكبير ملحِدين. ولكن المؤمنين كذلك تحمّسوا لهذه النظرية لاستجابتها لفِعل الخلق الذي يؤمنون به، وإن كانت في برهنتها على كونٍ عمره مليارات السنوات تناقِض التأويلات التوراتية.  

ولكن الانتقاد المتزايد للنظرية، وبالأخص ّفي قراءتها المشبوهة للخلفية المشعّة للكون، أعاد فتح التكهّنات كما في نظرية انتفاء الحدود (No Boundary)، التي قدّمها هارتل وهوكينغ والتي تسمَح بوجود مكان قبل الزمان، خلافاً للنسبية التي تربطهما (وخلافاً للتجارب الفيزيائية التي تثبتُ إمكانية وجود زمان بدون مكان). ثمّ ظهرت نظرية الأدوار بما فيها التذبذب والكون الغشائي ثمّ نظرية الارتداد العظيم التي ترى الكون مادّةً تنقبِض وتنبسِط ًفيختفي مع ذلك أو ينخلِق كونٌ جديد في كلّ مرّة. ولاحقاً ظهرت نظرية التضخّم لتفسير إمكانية أكوان متعدّدة انطلاقاً من تضخمات كونية. ثمّ ظهرت نظرية بينروز عن الصمت المتنافر (asymmetric silence)، وصورتها الكلامية أنّها تسمَحُ بميتافيزيقا صوفية كان فيها الكون مخبوءاً ثمّ قرّر أن ينكشِف. 

مع تكاثف النماذج دخلت فيزياء الكون في منعرَجٍ كلامي. فستيفين واينبرغ وألكسندر فيلَنكين ولورَنس كراوس، يقولون بإمكانية تولّد الكون من الفراغ، بل وإنّ الفراغ إما ليس عدماً أو أنّه احتمالية. وهوكينغ وبينروز وكيب ثورن يرون استحالة الفراغ فيزيائياً حتّى يتولّد منه شيء أو يكون حالةً من الاحتمالية المُطلَقة. وهو ما كان المتكلّمون يرونَه حالةً من الكمون وتشيؤ المعدوم والحاجة للترجيح. غير أنّ هؤلاء الفيزيائيون يستبدلون الترجيح بالمتفرّدة (singularity)، تماماً كما استبدل الفلاسفة الوسيطون فيزياء الجواهر والأعراض الأبيقورية بفيزياء أرسطو القائمة على المادة والشكل. وهو نفس ما أراد ابن رشد في إشارته المذكورة أن يفعله. وسرعان ما تحوّلت هذه الجدالات العلمية إلى مقولات في شيئية المعدوم- وأوّل من قاله به المعتزلة.

بل وتعيد هذه النقائض الفيزيائية صراع الأهواء المعتزلية والأشعرية. ففي صراع النسبية وفيزياء الكم ظهر مفهومان للقوة المحرّكة للكون. دافِع آينشتاين عن إله لا يلعب بالنرد، فيما دافَع نيلز بور عن إله يبدو أنّه يلعب بالنرد. فتبدو نقائض النسبية والكم هذه كما لو أنّها نقائض بين إله المعتزِلة الملتزِم بقواعد الكون وإله الأشاعِرة الذي يفعل ما يريده خارج إكراهات المنطق والعقل. (طبعاً المسألة أعقد. فآينشتاين رغم اعتراضاته كان مساهماً في إنتاج فيزياء الكم. والأخيرة، بعيداً عن الأشعرية، كانت أكثر إلحاداً من النسبية العامّة. ففيما أتاحت الأخيرة انبثاق العالم من نقطة ابتدائية فإنّ فيزياء الكم لم تؤمِن بهذه الفكرة وسرعان ما أتاحت نظريات بديلة كالعوالم المتعدّدة والأكوان المتضخّمة والأكوان الفقاعية والانفجارات الكبيرة التي تحدث باستمرار مخوّلة أكواناً جديدة). 

كما تعود أزمة الفيزياء إلى تعثرها في تحقيق "نظرية كلّ شيء". فالنسبية تُفسّر حركة الجاذبية بينما تُفسّر الحقول الكمومية المجالات الكهرومغناطيسية والنووية. غير أنّهما توصّلتا إلى قوانين مختلِفة بسبب عدم تطابق شروط التطبيق للقوانين في التحيّزات المختلفة للمادة، وهو ما يبدو غالباً لغير المتخصّصين تناقُضاً يتيح عالمين مختلِفين أحدهما تحكمه وحدات الطاقة المعروفة بالكوانتا وقوانينه تغطية الاحتمالات، في مقابل عالم الفيزياء الكلاسيكية الذي تحكمه قوانين السببية المعيارية والجاذبية. حاول الفيزيائيون مصالحة هذه الطبائع بالبحث عن نظرية لكلّ شيء وهو ما اعتقَدت نظرية الأوتار أنّها حقّقته بردّها كلّ المادّة ليس إلى ذرّات بل إلى أوتار وحيدة البعد. غير أن إخفاق الأوتار في أن تكون تجريبية وقادِرة على التنبؤ الكوسمولوجي جعلها تفتقر لشرط العِلمية وهو القابلية للدحض. وهكذا دخل الفيزيائيون في بحثهم عن نظرية موّحَدة في أزمة تشبه أزمة الخيمياء والبحث عن حجر الفلاسفة. بل وقبِل بعضهم، كفريمان دايسون، أن تكون قوانين العالم ثنائية وليست موحّدة أصلاً. ويظهر هذا التعالق اللاهوتي بالفيزياء في الأسماء التي تشتهر بها شعبياً مقولاتهم. فنظرية "كلّ شيء" المذكورة سُمّيَت بمعادلة الله (God Equation)، تماماً كما سُمِي الجسيم الأصغر وحدة- وهو مقابِل ما عرفه المتكلّمون بالجِسم أو الجزأ الذي لا يتجزّأ- بجُسيم الرّب. (The God Particle).

إزاء ما يبدو أزمة ابستمولوجية للفيزياء أو على الأقلّ لنظريات الأوتار والأكوان المتضخّمة والمتعدّدة والانفجارات الكبيرة، قدّم الرياضيون والفيزيائيون عدّة نماذِج منهجية تُنقِذ العِلم من الكهانة. فمبرهنة غودَل الرياضية تمنعُ عن النسق قدرته على تبرير كلّ منطلقاتِه من داخِله. وكان ريتشارد ميزَس قد بيّن هذا في حساب الاحتمالات عندما أظهر عدم تأثير منهج المتتاليات الجزئية والمتتاليات العشوائية في تغيير احتماليات عناصِر بعينها. وقد اقترح الفيزيائي فاينمان وصحبُه في الأربعينيات شيئاً كهذا في مبرهنة استبدال اللامتناهي (Renormalization)، التي تقتضي ضرورة إعفاء جزء من النظرية من المساءلة، إذ يمكن الالتفات عليه لاحقاً ببقية معطيات النظرية. وهكذا ستكون هنالك دوماً في الرياضيات الفيزيائية ثغرة لاهوتية، وإن كانت معلمنة، بل وعِلمية.

4) 

ولكن كون الفيزياء غير قادِرة على حماية نفسِها من عشوائياتها لا يعني فتح الباب دون قيود للتأمّل والكلام. وإنّما يجب أن يتهذب المتكلّمون في حضرة الفيزياء. ومن هذا التهذيب سيولد حوار بين الفلسفة والفيزياء والكلام. وقد ظهرت في السنوات الأخيرة عدّة مشاريع تقترِح اشتباكات جديدة بين هذه العلوم. لقد أظهرَت أعمال الفيزيائية سابين هوسينفيلدَر في عملها، فيزياء الوجود (2022)، عدم علمية كثيرٍ من النماِذج الفيزيائية السائدة، التي تتناقض أبّهتها الرياضية مع قيمتها العملية. إنّه نقد يشجّع على العودة للأبستمولوجيا الوضعية ولكنّه لا يجفل كثيراً من أطروحات اللاهوت. أمّاا الفيلسوفة والفيزيائية، كارين باراد فقد اقترحَت، في عملها، ملاقاة الكون في الطريق، (2007) استبدال الأنطولوجيا والابستمولوجيا بفكر جديد مستلهم من فتوحات الفيزياء. فالفيزياء قامت برأيها على مسلّمات استعمارية؛ وفيزياء نيلز بور تُحرّرنا من تلك الأنطولوجيا التي تُفرّق بين الذات والموضوع، بإظهار التعالق بين الملاحِظ والمُلاحَظ وبين المادة والخطاب. إنّها تريد مادِيّة محدّثة تنفي الشيئية وتُثبِتُ التعالُق السرمدي بين الأشياء. وهي تستلهم كذلك من جاك دريدا، مفكّك الثنائية الكبير. فمشروعها، الواقِعية ذات المشيئة (Agential Realism)، ينسِب العقل للكون، الذي رآه نيلز بور في هيئة وعي، ويؤكّد رأي الماديّة الجديدة أنّ المادة عاقلة كما أنّ العقل مادّة. وطبعاً يختلِف هذا عن العِلم الزائف مثلاً عند ديباك تشوبرا، الذي يمازج الصوفية الهندية بالعلوم فيُعطي للأفلاك والذرّات وعياً وروحاً؛ بل إنّه ينبَع من ميتافيزيقا جديدة للفيزياء. فمسألة الوعي صارت قُدماً مسألة فيزيائية. أمّا اللاهوتي جون أف هوت فيقترِحُ في عمله، الله فيما بعد آينشتاين (2022)، أن تستفيد الأديان السماوية من فيزياء آينشتاين وتستبدل نظرية الكون المكتمِل بالربّانية المتحقّقة، وأن تستبدل الزمن الديني بالزمن الفيزيائي، وأن تستبدِل فكرة الإله الأولمبي بإله الوجود المتوحّد. قد تعطي هذه المحاولات فكرة عن نوعية المشاريع الفكرية التي قد يتطلّبها النظر مع الفيزيائيين في الأبواب المفتوحة. فإمّا يتحوّل التفكير الأكواني إلى ابستمولوجيا للفيزياء، كما اقترح المناطِقة الوضعيون، أو أن نستدخِل التقدّمات الفيزيائية في بناء فلسفة كلامية أو مادية جديدة.

من السهل على سِعة فيزياء الكون أن تستدعي المتكلّمين بحجّة أنّ الفيزياء أخطر من تُترك للفيزيائيين أو أنّ الفيزيائيين لا يُسيطِرون على حقلِهم

ومن السهل على سِعة فيزياء الكون أن تستدعي المتكلّمين بحجّة أنّ الفيزياء أخطر من تُترك للفيزيائيين أو أنّ الفيزيائيين لا يُسيطِرون على حقلِهم. وإذا حدَثت تلك الهجرة الثيولوجية إلى الكونيات دون تأسيس فلسفي فإنّ التفكير قد يدخُل في مرحلة شبيهة بالروحانية العِلمية التي استيقظت في صدر القرن العشرين وأنهكت العقول ووصلت للمجال الإسلامي منذ طنطاوي جوهري حتّى العلوم المُتوهّمة كالإعجاز العِلمي والطبّ النبوي. يمكن تلافي هذا بتحويل الالتقاء الفِكراني بين هذه العلوم إلى فضاء عمومي يتخاصَبُ فيه الأكوانيون مع المتكلّمين والفلاسِفة والإلهيين، كما في المشاريع الثلاثة أعلاه وغيرها. وفي حقيقة الأمر فإنّ عِلم الكلام كان تاريخياً ذلك الفضاء متعدّد التخصصات قبل أن يحوّله الاستقرار الثقافي والكسل الفكري إلى عِلم للعقائد والحفظيات ويفقد بذلك قدرته على المساهمة في تقديم النظر في الكونيات.


* خالص الشكر والتقدير للدكتورة حنان علي، أستاذة الفيزياء بجامعة عين شمس، والدكتور محمّد بركات، أستاذ الرياضيات البحتة بجامعة زيجن بألمانيا، على قراءتهما هذا المقال ومناقشته قبل نشره.