كل مدينة لا تحتضن عازفين في شوارعها لا يعوّل عليها. هكذا بكل بساطة، كأنك تتحدث عن يابسة وبحر، عن نافذة ضوء في عتمٍ كثيف. شوارع المدينة تصبح أكثر دفئًا مع عازفيها وكأنهم زُرعوا هناك ليخففوا من وحشة المكان. وفي اسطنبول العزف قد يكون فرديًا، أو جماعيًا ليحمل صوتًا يغني اللحن وأجسادًا تشكل حلقة رقص، فيصبح الأمر أشبه بعرض متكامل يحمل متعة خاصة.
شارع الاستقلال في اسطنبول نموذج عن الشارع الذي يحتضن هذه الظاهرةعلى طول امتداه، صوت الأوتار يخترق زحمة المارة المشغولين بتفاصيل حياتهم الكثيرة، ولكن الموسيقى هنا تستوقفهم كأنها إرث متنقل يحمل عند كل محطة هوية جديدة، يجد المارة أنفسهم متماهين معها. وكأن الشارع عرض غنائي كبير، فيه عازفين ومغنين وراقصين، عرض حي يشبه الحياة.
في الشارع الفكرة تقوم على عرض مصحوب بحرية حضوره
في الشارع الفكرة تقوم على عرض مصحوب بحرية حضوره، وكأن العازف يلعب موسيقاه من دون جمهور، هو اختار أن يكون وحده، يوجه دعوة الى العابرين. هنا العرض يأتي إليهم، متى أرادوا ذلك يتوقفوا لالتقاطه. ثمة فيديو تداولته وسائل الإعلام منذ فترة عن أشهر عازف كمان في بلده، وقف في محطة القطار يعزف لكن أحدًا لم يلتفت إليه، مئات مروا بقربه ولم يتوقفوا للحظة، ولا بد أن يكون من هؤلاء المئات من اشترى تذاكر خصيصًا لحضور حفله، لكن أحدًا لم يتوقف لسماع عزفه. كان ضجيج الحياة التي تجري على عجل أقوى من أي صوت.
أجمل ما في المدينة عازفوها المتجولون، عازفو الأنفاق، عازفو الشوارع، حتى الاطفال الصغار الذين يحاولون الدخول في هذه اللعبة. يتوسطون الشوارع بآلاتهم الصغيرة، بعضهم ينجح في أحداث ظاهرة ما وغالبًا ما يتعاطف معه السواح، لكن هنا الطفولة تطغى. عازفو أنفاق محطات القطار أكثر احترافية، لا يمكن لأي كان أن يعزف في محطة القطار، عليه أن يتقدم بطلب إلى الجهة المسؤولة عن النقل مع عدة مستندات ونبذة عن أعماله لتحدد له موعداً يمكنه ان يعزف فيه، وقافلة الانتظار طويلة جدًا. من هنا الشارع أكثر حرية. في لندن، قامت البلدية بتصميم موقع خاص بعازفي الشوارع، يحدد فيه مكان وساعات وجودهم وذلك كي يتمكن المارة من متابعتهم أو مشاركتهم العرض.
ثمة عازف عجوز يعزف "انت عمري" لأم كلثوم على الطريقة التركية
لكن هنا في اسطنبول، ثمة عازف عود عجوز، يفترش بقعة خاصة فيه في شارع الاستقلال، يعزف "انت عمري" لأم كلثوم على الطريقة التركية. بشاربين مصفرّين يبتسم للمارة ويحيل نظرهم إلى ورقته التي تمنع التقاط صور له من دون وضع نقود، ورقته تذكرة العرض وهو يعزف ويبتسم. والتذاكر هنا قطع نقدية، رنين سقوطها في العلبة المخصصة لذلك له وقع خاص، وغالبًا ما تكون علبة النقود هي العلبة نفسها التي تغلف الآلة عند الحمل.
العازف ليس متسولاً، وعلى المارة ألا يتمننوا عليه، ولو أن كثيرين يجدون في هذه الظاهرة مصدر رزق يومي، لكن الفكرة أبعد من لك، أو ربما نحن نريدها أعمق، النقود التي ترمى على الأرض ليست إلا تقدير لمتعة أتت على غفلة. العازف يقدم لنا خدمة وليس العكس، هذه الحياة لا تحتمل من دون موسيقى. المرأة الغجرية التي حملت آلتها الغريبة وصودف أنها في شوارع استوكهولم، كانت تحكي قصتها بيدين تضغطان الآلة التي تشبه الأكورديون، بتنورة مزركشة طويلة تتمايل مع جسدها الممتلئ، كانت قصتها جميلة جدًا. "إن الحياة بدون موسيقى ستكون غلطة"، يقول الفيلسوف الألماني نيتشه، وعازفو الشوارع يدركون ذلك جيدًا، يوقفون قطار هذه الحياة السريع ويخبرونا أن نترجل منه لبرهة، بأوتارهم يحكون قصة، علينا التمهل قليلًا، والاستراحة من ضجيج اسطنبول، لنعرف كم هي جميلة هذه الحياة.
اقرأ/ي أيضًا:
أجمل 7 أغانٍ تصف مدينة إسطنبول