سيادة القانون مكون أساسي من مكونات الديمقراطية، بحيث يمكن القول إن أي نظام سياسي ديمقراطي لا يطبّق بدقة مبدأ سيادة القانون يفتقر إلى الشرعية.
وتبدو أهمية هذا المبدأ في التصنيف الذي استقر عليه العلم السياسي في التفرقة بين دولة القانون أو الدولة القانونية التي تعطي المواطنين فيها كل الضمانات الأساسية للحرية وكل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والتي نصّت عليها مواثيق حقوق الإنسان المختلفة، والدولة البوليسية التي يقوم الحكم فيها على القوة بدون الخضوع لقواعد القانون.
والأصل أنه في الدولة القانونية يُطبّق مبدأ سيادة القانون على كل المواطنين أيًا كانت مكانتهم السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، بعبارة أخرى يمتنع التمييز في تطبيق القانون لأي سبب وبالتالي فلا يجوز –كما يحدث في بلاد متعددة غير ديمقراطية- قصر تطبيق القانون على الضعفاء من المواطنين، أو استثناء الأقوياء من هذا التطبيق.
اقرأ/ي أيضًا: انقلاب ماذا أيها الأبله؟ (1-2)
وأيا ما كان الأمر فيمكن القول إن مصر عرفت مبدأ سيادة القانون منذ عشرات السنين، وخصوصًا بعد صدور دستور 1923، الذي تبنّى الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. وألتزمت عديد من الحكومات المصرية التي تشكّلت في ظل هذا الدستور –سواء تلك التي كانت تنتمي لحزب الأغلبية وهو الوفد أو أحزاب الأقلية- بمبدأ سيادة القانون إلى حد كبير. غير أنه يمكن القول إنه بقيام ثورة يوليو 1952 سقطت الشرعية الدستورية التي كانت تستند إلى دستور عام 1923، وحلت محلها ما أُطلق عليها "الشرعية الثورية".
وهذه الشرعية الثورية تجاهلت تطبيق مبدأ سيادة القانون في عديد من الحالات -التي تخبرنا بها كتب التاريخ الحديث- بدعوى محاربة الاستغلال والإقطاع وعلى أساس أن الإجراءات الجنائية التي ينصّ عليها مبدأ سيادة القانون تقتضي وقتًا طويلاً وتمر بمراحل متعددة من الحكم الابتدائي وحكم الاستئناف وحكم النقض.
وقد دارت في عصر الثورة مناقشات شتى حول عدم التطبيق الكامل لمبدأ سيادة القانون، ورفض عدد من القانونيين، قضاة كانوا أو محامين، فكرة الشرعية الثورية لأن من شأنها أن توقف مبدأ سيادة القانون، ولكن في مصر ما تريده السلطة هو ما يجب أن يمرّ. جدير بالذكر أن الأمر نفسه حدث ولكن بالمعكوس عقب ثورة 25 يناير ،حيث رفضت "السلطة" -ممثلةً في المجلس العسكري الذي حكم مصر في فترة انتقالية كارثية- إقامة محاكم ثورية لنظام مبارك ورجاله، وانتهي الأمر كما نعلم جميعًا ببراءات جماعية لهؤلاء المجرمين في مقابل حبس وقتل العديد من النشطاء السياسيين الذين شاركوا في ثورة يناير.
اقرأ/ي أيضًا: قوانين السيسي لجامعات مصر.. "للخلف در"
تحوَّل النظام السياسي المصري من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية من جديد في بداية حكم أنور السادات، واسترد بالتالي –إلى حد كبير- مبدأ سيادة القانون مكانته القديمة. إلا أن السادات، الذي كان يعتبر نفسه "كبير العائلة المصرية"، سرعان ما ضرب بالقانون عرض الحائط لتهيئة الملعب السياسي له وحده، حين حدث صراع بينه وبين قوى المعارضة المختلفة، بالرغم من أنه هو الذي ألغى نظام الحزب الواحد (الحزب الاشتراكي) وفتح الباب أمام التعددية السياسية، بفتح المنابر أولاً أمام النشطاء السياسيين ثم بعد ذلك قيام الأحزاب في ضوء نظريته "الخاصة جدًا" عن اليمين والوسط واليسار.
ثم جاء بعد ذلك حسني مبارك الذي قال بعبارات قاطعة في خطابه الأول للأمة المصرية "أن سيف القانون القاطع سيطبّق على الجميع بدون أي تمييز"، وكان هذا الخطاب بمثابة الإشارة الرمزية إلى استعادة مبدأ سيادة القانون مكانته القديمة، ولكن لاحق الأيام لم يقدّم أي دليل على صدق ما قاله مبارك.
وإذا كان السادات قد بدأ سياسة الانفتاح الاقتصادي بمعنى التحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية إلا أن العملية لم تكن منضبطة
مبارك، الذي بدأ عهده بمؤتمر قومي عن الإصلاح الاقتصادي، حاول أن يرشّد عملية التحول إلى الرأسمالية، لكنه في المقابل فتح المجال واسعًا منذ بداية الألفية الجديدة أمام رجال الأعمال من -أصدقاء ابنه جمال- للإسهام في "التنمية الاقتصادية"، وصاحب ذلك انسحاب الدولة من مجالات الإنتاج بحكم برنامج شامل للخصخصة، مع أحاديث متزايدة –وقتئذ- عن الانسحاب من مجال الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة.
لذلك ربما يكون مفهومًا الآن في عهد الجنرال عبد الفتاح السيسي ذلك الاحتفاء والاتكال المبالغ فيه على القوات المسلحة المصرية، وأذرعتها الصناعية والتجارية والإنشائية، باعتبارها الصورة المستعادة من زمن كانت الدولة تقوم فيه بكل شيء، زمن عبد الناصر والستينيات، الستينيات التي حلف بها -يومًا ما- الرئيس المعزول محمد مرسي.
المهم أن نجم رجال الأعمال صعد بقوة في عهد مبارك وأصبحوا يمتلكون القوة الاقتصادية والنفوذ السياسي في نفس الوقت، مما سمح بانحرافات متعددة ومخالفات صارخة للقانون في كثير من الحالات، وفي كثير منها أيضًا لم يُتح لمبدأ سيادة القانون أن يُطبّق فيها بصورة متكاملة.
وللمرء أن يتخيّل مدى الحالة التي يكون عليها مبدأ سيادة القانون في ظل نظام حكم أكمل العامين بالكاد وامتلأت سجونه ومعتقلاته بالمحبوسين احتياطيًا والمختفيين -لمدد طويلة- من دون توجيه أي اتهام لهم، وللمرء أيضًا أن يتسائل عن مصير القانون وسيادته في ظل نظام جاء به رجال الأعمال المشبوهين إلى كرسي الحكم، ولا يزال عددهم يتزايد يومًا بعد يوم و كذلك جرائمهم في حق الشعب المصري، وكأنهم يخرجون ألسنتهم للقانون وللقائمين عليه، وبالتأكيد لكل مصري.
اقرأ/ي أيضًا: