أغلقتُ موبايلي مع وصول الصورة الأولى من تجمع أهالي المعتقلين في دمشق. أغلقتُ الإنترنت أيضًا، فما لا يصلك عبر الواتساب، أو ما شابهه من تطبيقات، سيصل في الأخبار العاجلة أو إشعارات المواقع التي أتابعها.
لا أريد رؤية أية صورة لأيّ أحد يخرج من طبقات الجحيم تلك، لأنه سيكون المثال التقريبيّ لما سيكون عليه غائبي، وهو أخٌ انتهت آثاره عند حاجز لجيش النظام السوري في مثل هذا الشهر من عام 2013.
يظل الأمل أقرب ما يكون إلى أحد عملاء النظام يتسلل خلف خطوطنا، موهنًا قوانا في وقت يفهمنا فيه أننا منتصرون
مثل كل من يعطفون على غيّابهم احتفظت بأجمل صوره، تلك التي يبدو فيها سعيدًا، خالي البال، موفور الصحة، لأنني أحمل فكرةً حالمةً إلى درجة شديدة السذاجة، هي أنّ الغائب يعود مثلما هو في الصورة التي فارقنا فيها، وليس في الصورة التي صار عليها بعد طول نأي.
لا داعي لأن أضيف، فذلك من بديهيات سلوك المصابين بهذه اللعنة، أنّ أي حديث عن الغائبين هو حديث عنه. كل أمنية بسلامتهم هي أمنية تخصّه. كل دعاء بالفرج القريب لهم كلهم هو دعاء له ومن أجله. كل خبر سيئ يأتي من عندهم هو عنه لا عن سواه.
نحن الذين عشنا مع هذه المشاعر المتفجرة تسع سنين، ولم نعد نحتمل المزيد لشدة ما شخنا في حياة من الكوابيس والخوف والهلع والتماعات الصور القديمة في الذاكرة؛ نحن الذين حدث لهم كل ذلك غدت حياتنا حديقةً للندم، وغدونا بستانيين نعتني بعشبها وزهورها في سخرةٍ بلا نهاية.
لأجل هذا ولغيره من الأسباب، لا أريد مشاهدة صور تمنحني جولات جديدة من الأذى. لا أريد مزيدًا من المكابدات. ثم يحدث أن أقع في الفخ. ولأقلها بالتهجئة السورية الصحيحة: ثم يحدث أن يقع الفخّ عليّ. فواحدة من المعاني العميقة لكونك سوريًّا هي انعدام فرصة الهرب من هذا المصير. وكما ألقت بلادنا بنا داخل حفرة قبل أسبوع، ها هي ذي تضعنا في الانتظار مع الحشد الذي تجمهر في دمشق.
حين يكون لديكم مفقود، في السجن أو في المجهول، تصبح مشكلتكم الكبرى مع الأمل. يصبح الأمل خصيمكم المُبين. فهذا التاجر اللعين يبيعكم كل صباح إحساسًا بفرج قريب، وشعورًا بانتهاء الشدة، ثم تنتبهون أنه يكذب بلا توقف. ما من وعد من وعوده يتحقق. وما من شيء مما يرسله إلينا يصل.
مع ذلك تشعرون أن عليكم أن تدركوا أن الأمل يخصكم وحدكم. تريدون أن ترتاحوا فتتمنوا للغائب أن يعود مهما كانت الظروف التي مرّ بها. لا تفكرون به، ولا ترونه، ولا تدرون شيئًا عنه، لكنكم تريدونه أن يعود. هنا عليكم الاعتراف بالحقيقة كما هي؛ تريدونه أن يعود ليفرحكم أنتم، ليريحكم أنتم، كي يغادر صدوركم الندم، وكي يترككم الشوق بسلام لتلتفتوا إلى توافه الحياة التي حرمتموها، ليكون في مقدوركم أن تهنأوا بالطعام والمشي والنوم. حسنًا هذه اسمها أنانية الأمل. هذه أنانية الآملين الذين لا يبالون بكمية الألم والمرض اللذين نالا من غائبهم، في ذلك المكان الذي لن يمنحه حتى حبة أسبرين لمقاومة صداع خفيف، فما بالكم بما هو أكثر من ذلك؟ ولا يبالون بالتعذيب اليومي الذي لا يعرف انقطاعًا، ولا الإهانة التي لا تريد أخذ استراحة. على الغائبين أن يمروا بكل ذلك العذاب ثم يأتوا إلينا سالمين، نريدهم أن ينقذونا أكثر مما نريد أن ننقذهم!
من أجلهم، من أجل آلامهم، أظنّ أن اليأس لديه الحل. إنه يقول لك ولها ولنا.. فليكن ما كان. فلنسلّم بأن الغائب غاب ولن يعود. بمثل هذا ننتصر على ندمنا. بمثله نتحرّر من خوفنا. أما الأمل فيظل أقرب ما يكون إلى أحد عملاء النظام يتسلل خلف خطوطنا، موهنًا قوانا في وقت يفهمنا فيه أننا منتصرون.
الذين وصلهم خبر الموت وتسلّموا أوراق غائبيهم، والذين لا يعرفون بالضبط هل ينتظرونهم في السجن أم في صور قيصر جديدة، أو في مقبرة جماعية جديدة، والذين ليسوا هناك لكنهم هناك ويركضون مع الراكضين.. هؤلاء جميعًا منذ نُكبوا يشعرون أن دقائق حياتهم وساعاتها مسروقة ممن غابوا. تداهمهم الكوابيس على مدار الوقت في اليقظة والمنام، وتطحن رؤوسهم الذكريات التي تجعل من كل يوم مناحةً.. هؤلاء لم يستطيعوا مواجهة حقائق الغياب البسيطة ولا قبولها، هؤلاء هم ضحايا الأمل. الأمل هو الذي يدفعهم إلى الشوراع يركضون وراء سيارة ربما تحمل ابنتهم أو ابنهم، وعلى طول المسافة والتوتر والازدحام، يكدون ليروهم لعل وعسى يطلّ الغائبون فتبرد القلوب المدماة بالشوق والشجن.
عرفنا مجازر شتى، من محاكم التفتيش إلى الإبادات العرقية للسكان الأصليين، إلى القتل بالتجويع والتعطيش، إلى مجازر الاغتصاب، وبعد الرصاص والمدافع والصواريخ، ها نحن نعاين نوعًا جديدًا: مجزرة الأمل!
أمي في الشارع. أمي ليست في دمشق. بل ليست في سوريا. مع ذلك هي في الشارع، أو الشارع فيها، تنتظر مع المنتظرات والمنتظرين. أخي لم يخرج. ربما ليس هناك. لكن من يمتلك القدرة على إقناع أمٍّ أن فرصة فلذتها للنجاة غير موجودة؟ حتى التي دفنت بناتها وبنيها بيديها لن تقتنع. وما يجب أن يقال إن الأمهات أول وأكثر من يوقعن عقودًا مجحفةً مع الأمل، ولا يفسخنها على الرغم من أنه يخل بالتزاماته باستمرار، ولا يبدي احترامًا لبنود التعاقد.
عرفنا في الماضي والحاضر مجازر شتى، من محاكم التفتيش إلى الإبادات الثقافية والعرقية للسكان الأصليين، إلى القتل بالتجويع والتعطيش، إلى مجازر الاغتصاب، مرورًا بكل أنهار الدم التي صنعها الرصاص والمدافع والصواريخ، وبعد ذلك كله ها نحن نعاين نوعًا جديدًا: مجزرة الأمل!
نظام ساديّ مستمتع بالألم، وبإحياء صدمتنا التي لا يريد لها التعافي. بفتات الرجاء التي يرميها إلينا يريد أن يُحرق ما لم تحرقه النيران فتراتِ القصف، ويقتل ما لم تقتله البحار والمراكب، ويُجهز على ما لم تُجهز عليه فترة سنوات الجوع التي يديرها بلؤم.