التقيت وبلال خبير في لاس فيغاس، كان اللقاء غريبًا لظلين آتيين من حياة سابقة. ولكن فيغاس كانت أغرب من هذا اللقاء، وأعتى من محاولتنا النبش في حياتينا السابقتين، اللتين تغوصان في العتمة الآن، واللتين جاء كل منا ليؤكد أننا عشناهما سويا في ما مضى. كنا الشاهدان الوحيدان على ماضينا. ولم يكن هناك شوارع ولا مقاه ولا حانات ولا وجوه، نستعيد من خلالها من كنا عليه وكيف كنا. التقينا في نقطة اللاتجانس، ولكنها نقطة بدت سانحة ليتفقد كل منا الآخر ويعاينه خارج شبكات التواصل الافتراضية. الظروف شاءت أن نلتقي بعد خمسة عشر عامًا في هذه المدينة، غير أن هذا اللقاء بمكانه وزمانه بدا كأنه تمثيل لإقامة في شاشة عرض واقع مغاير لما نحن عليه، وليس فيه آلية اتصال ولا متسع لنستعيد ما دفناه في ماضينا، الذي جئنا نستذكره محملين بما احتفظنا به، وما صرنا عليه في عزلات حاضرنا.
في لاس فيغاس يداهمك المكان بتقديم التاريخ وعمارته ورموزه كأنصاب خارج حيزها الحيوي، تقيم فيه كأسرى وعبيد يخدمونه وزواره
تسكعنا كمراقبين بنيهيلية متخففة فرحة، إذ بدا لنا أن مقاومة هذ اللامعنى الجارف يسحق المخيلة والذاكرة على حد سواء. وسطوته تفوق أحمال الماضي وأهواله. فكان اللقاء ضحكًا متواصلًا يتولد من الشعور بالصغر. التقينا في اللامكان، في مركز انتفاء الأواصر وضمور الصلات كلها. فهذه المدينة تتوهج ازدراء لتعاسة البشر، وتظهيرًا مكثفًا لعادية أحلامهم المبتذلة. تعتمل فيها صناعة المرح عبر إنتاجه في قالب واقعي يجمع تفاهة الحياة والعدم والإمكانية على حد سواء. وهي في هذا تبدو لحظة تأزم في حلم يدخل إليه المرء لبرهة تلمع في أرض ميعاد وزيارات وطوفان يحج إليه مؤمنون بالمتع الخالصة والمرح المجرد، يهربون من يومياتهم إلى واقعها المثبت في أدائية عالية تستقبلهم في يوتوبيا منقطعة عن الكتب والأفكار الخلاصية الكبرى، مستقلة ومثبتة بصلابة في الزمن وفي الأذهان، تفتح لك أبوابها لتزورها أنى شئت في لحظة احتفالية صاخبة وباذخة وناجزة في تحققها هذا.
وفي تزاوج الجغرافيا مع المرح في صناعة اللحظة المستقلة تلك يبدو المكان للوهلة الأولى خارج صيرورة التاريخ وصراعاته. غير أنه سرعان ما يباغتك عتو الإمكانية المؤسَّسَة على الازدراء، فيداهمك المكان بتقديم التاريخ وعمارته ورموزه كأنصاب خارج حيزها الحيوي، تقيم فيه كأسرى وعبيد يخدمونه وزواره. الكازينوهات عمارات وهندسة داخلية ترهب الجسم وتجعل التاريخ يبدو كقوالب كرتونية تعوي على جدرانه الأفكار والأساطير والتجارب التي شكلته. فالمرح في المدينة هو قوتها الكامنة التي تطرد الوجع الكوني والأسئلة الوجودية الكبرى.
فتماثيل يوليوس سيزر والآلهة الرومان وبرج إيفل والكوليزيوم.. تطالعك في الشوارع مع جداريات الملاحم الإغريقية وأعمدة الهياكل الرومانية، كلها تتنصب مجاهِرة بعظمة المكان ونجاعته في إنجاز الإمكانية وتكثيف الغواية في تحقق أحلام البشر المجردة كالراحة والفخامة والتمتع الاهتمام والرفاهية والطمأنينة والمخاطرة. وهي بهذا نسخة متطورة عن ديزني، نسخة واقعية عن أحلام المتعة والغواية والإثارة والخسارة على حد سواء. مدينة تعمل بواقعية عالية غير أنها تُبدد تروما البشر في مدارات الحظوظ والتوقع والتمتع بسحر الإمكانية. وفي سطوة وقتها هذا تلغي احتمال النكوص والانطواء على الذات. أنت في فيغاس دائم الشعور بالإمكانية.
وفي كل هذا تبدو المدينة كأنها حفلة انتصار تقيم في الصحراء على أنقاض الحداثة والبرجوازية وفنونها وآدابها وتصوراتها للحياة، وهو انتصار فضائحي تسجله المدينة على الجامعات والمتاحف وصالات الفنون ونظريات العمارة، وحياة المدن والحواضر وشوارعها. وفي هذا تطرح تصورًا رائدًا لاقتصاد المتعة والمرح، الذي باتت تتجه إليه الاستثمارات وبات يشكل جزءًا ميسورًا من اقتصادات الدول. وفي مكان آخر تبدو أنها تسجل أيضًا انتصارًا على السرديات الكبرى الخلاصية وسلالم رموزها ووعودها. فالمدينة تقيم في كنف الترميز وأسطرة اللحظة وازدراء الأوجاع وجفاء الطبيعة، وفيها يصبح الشعر ترفًا أو لغة في غير مكانها، لغة تعجز عن القول والوصف على حد سواء.
وهذه السطوة على الراهن والماضي تعتمل بتكثيف مضاعف للكيتش، مع فيتيشية حادة في صناعة سلطتها واقتصادات التمثيل والترميز في حيزها العام، وبضخامة البناء وجبروته وشموخ مبانيه والمساحة المتمادية التي تحتلها فضاءات الكازينوهات. هذه المجاهرة في البناء والهبوط الصارخ في الجمالية الفنية، واستدعاء الأصلي عبر نسخة مقرونة ببث كثيف لروح الاستجمام والمقامرة يقابلان بإقبال كبير من الزائرين، مما يحيل الزمن إلى زمن عام حتى داخل الغرف المقفلة.
فرادة هذه المدينة تقيم في تجريد التحديق والتأمل من الاعتراض. فواقعيتها تشبه الصور الشعاعية تُظَهر حقيقة الأعطاب البشرية التي يحجبها الراهن المعاش والماضي الصعب والأفكار الكبرى. فواقعيتها الكاشفة هذه هي مساحة تبخس الأنصاب وتاريخ العمارة والتمثيل الرمزي الذي نصنع منه لغة ومجازًا بكلماتنا، وتتجاوز التوقعات التي يعكسها خيالنا. ففيها تظهر تفاصيل جوهرية عن سماتنا البشرية تشكل قطيعة مع الماضي والراهن على حد سواء، شيء ما يشبه النقطة العمياء في نظرنا التي هي أيضًا مصدر الضوء الذي قد يحرق أعيننا إذا نظرنا إليه في أيامنا العادية.
جئنا أنا وبلال نتفقد ما تبقى منا. فاستقبلتنا فيغاس بفلسفتها الخانقة: تخفف من أملك يا تواق، لا شي يبقى من معان ذوت ولا من أشياء تستنير بالنسيان.