13-يوليو-2016

محمد عبلة/ مصر

على جدار غرفته، كتب أحد أصدقاء الغربة ذات مرة: "لو حكينا يا حبيبي... نبتدي منين الحكاية". ربما كان في تلك اللحظة التي أسرته بها أغنية العندليب، لا يفكر إلا بحبيبته التي تركته وغادرت مع أهلها إلى دولة لجوء جديدة، مبتعدة عن عالم الخوف الذي كان يترصدها، وهي تنتظر حبًا مجهولًا تغلبت عليه في نهاية الأمر، لتصير لاجئة من الدرجة الأولى.
 
لكن الحكاية التي لم نحكِها بعد كما أوحى الراحل عبد الحليم، لا تمتلك بداية واحدة في هذا الفضاء المشرع من القصص التي تمتاز بغرائبية لا يمكن تصديقها، تغمر هذا المجتمع الجديد الذي تكون حقيقة أو افتراضًا خلف الحدود التي أظهرت بقدر ما أخفت منا، وكأن الحياة التي نعيشها لا تنهي قصة إلا لتبدأ بأخرى أشد قسوة على أبطالها.

هؤلاء كلهم لاجئون، الشارع الذي يحمل قصصهم طويل جدًا، لا أستطيع أن أحصيهم، لكنني على قدرة لا بأس بها لقراءة قصصهم التي تحكيها وجوههم، التي تخفي خلف ابتساماتها الكثير من الحكايات التي لم يعد لها في اللجوء معنى مقابل، وأصبحت أكثر ما يدور في أحاديثهم اليومية في هذه البلاد التي دائما ما تثير خوفهم. 

لا أسألهم بطبيعة الحال كي لا أتهم بحشرية لا توجد في شخصي تجاه من لا أعرفهم، ولا أملك لهم حلولًا تبرر فضولي الذي أكسبتني إياه مهنتي كصحفي لم يعمل بمهنته من مدة لا بأس بها، لكني ألجأ لمن هم أقرب إليّ، فما هو خاص يمكن أن يعمم في حالتنا التي تتشابه بها المعالم وإن اختلفت الألسنة وتعددت قصصها. 

المقهى، المكان الأشد غرابة في هذه البلاد، مأوى الغرباء الباحثين عن تسلية تعينهم على هجر غربتهم، مرتع الأحاديث المتكررة التي حفظت عن ظهر قلب لكنها تعاد كل يوم، نقرات حجر النرد الذي يمنح الحظ الكئيب لمن خسروا كل رهاناتهم قبل أن يصلوا إليه ليمنحهم نصرًا زائفًا على غريمٍ وقف كل شيء في وجهه حتى هذا التائه المرقط، هنا يمكن أن تتلصص بعفوية على من تأخذهم تلك الأحجار الصغيرة إلى أحاديث لم يكن لهم نية فتحها، لكنها وجدت طريقها في دخان السجائر المتصاعدة من حولك لترسم غيمة كبيرة من المآسي التي لا يمكن أن يتحمل بشر كتمانها.

على هذه الطاولات المرصوفة كيفما اتفق، يستعيد كثيرون قصصهم التي حاولوا اغتيالها مسرفين في النسيان الذي أصبح يباغتهم بذاكرة قوية، تأتي في الأوقات التي يبحثون فيها عن ابتعاد مريح عن أنفسهم التي عرفوها سابقًا. 
مجموعة من الأصدقاء جمعتهم هذه البلاد صدفة لم تكن لتحصل لو أنهم ما زالوا في بلادهم، اللهجات مختلفة كما هي الأحلام، وحدها المخاوف الآنية ما توحدهم الآن فيحكون عنها، الإقامة والطريقة الشرعية لإصدارها، الكارت الأصفر الأممي الخاص باللاجئين، ومدى أهميته بالنسبة لهم، وهل سيحميهم حقًا من المسائلة القانونية التي لا يرون أن هناك داعٍ لها، العمل الذي يتعلق فيه أحدهم كآخر قشة يخاف أن تفلت منه فيغرق دون أن يفكر بالهجرة كصديقه الذي كان شجاعًا فابتلعه البحر ساخرًا من شجاعته، المرتبط الذي يخاف أن يخطو درجة أخرى في طريق الزواج خشية أن يصبح أبًا للاجئين جدد، الباحث عن معجزة تحمله إلى البلاد التي تستحق أن تحمل فيها صفة لاجئ. 

انتهت أحاديثهم المكررة، الصمت سلاح الضعفاء والغرباء، المواقع الافتراضية السبيل الوحيد إلى تبرير صمتهم، يذهب كل إلى هاتفه وتبقى غيمة السجائر والأحاديث الماضية شاهدًا على الحيرة التي تحاصرهم، أتفحص وجوههم فلا أرى إلا شارعًا طويلًا يشبه شارع اللاجئين الذي أمر به يوميًا.

الحكايات تختلف ولكن لا تنتهي، وحدها الأسماء ما يمكن الاحتفاظ بها بعد هذا الطوفان الذي أغرقنا جميعًا، القليل قادر على تحمل العواقب، البعض يتحاشى أن يفكر أنه يعيش فيها، كي لا يموت منتحرًا بحبل غليظ نصبته له الأيام التي مرت في انتظار ما ستفعله الأيام القادمة.

يكسر بعضنا المرآة التي تحمل صورته القديمة، ليفلت من شرك قصص يخاف تذكرها أمام ما أصبح عليه الآن، يلتهم زجاج مرآته ليصبح مع توالي أيامه قارضًا يسحق قديمه كي يستطيع أن يعيش في جديده.

اقرأ/ي أيضًا:

فأرة تدحل الوقت

الجرح الصغير على السبابة اليمنى