15-أغسطس-2023
النيجر

عادة ما تنحو القراءات حول الانقلابات الإفريقية بتغليب الفواعل الخارجية (ألترا صوت)

يتصدر انقلاب النيجر مؤخرًا، أخبار العالم، وتحليلات الصحف والإعلام. وأضحى الساحل بالتحديد، منذ ثلاث سنوات محط اهتمام ومجال تنافس جيوسياسي عالمي. تذكّر الحرب الباردة في السبعينات بين الاتحاد السوفييتي والغرب. تعود المشاهد ذاتها ليس من خلال الأحداث السياسية التي اجتاحت منطقة الساحل في السنوات الثلاثة الماضية، من مالي إلى بوركينا فاسو ومن ثم النيجر. وإنما في المواقف والسرديات والتفسيرات أيضًا.

عادة ما تنحو القراءات حول الانقلابات الإفريقية بتغليب الفواعل الخارجية، وتأثيراتها، مثل المواجهة الغربية الروسية على الساحل، مما يؤبد إفريقيا كحلبة صراع دولي على الموارد. خصوصًا أن المنطقة كانت في نهاية الستينيات إلى سقوط الاتحاد السوفييتي ساحة حرب باردة مشتعلة، وكانت الانقلابات أحد أهم أدوات القطبين المتنافسين. تعود معركة الصراع على موارد إفريقيا مجددًا، أولًا، من أوروبا عبر قنواتها الاستعمارية، ونخبها وشركاتها وقواعدها العسكرية. وروسيا، التي باتت تنشر عبر مجموعة فاغنر السيئة السمعة في أربعة بلدان إفريقية وهي ليبيا، وجمهورية إفريقيا الوسطى والسودان وموزمبيق. ومؤخرًا ابتدرت مثل باقي القوى الدولية والإقليمية بتنظيم قمة سنوية ثنائية مع الدول الإفريقية. وقد حضر القمة الأخيرة في روسيا 38 رئيس إفريقي، غالبتيهم من منطقة غرب وشمالي القارة. ووقعت اتفاقية عسكرية مع 26 دولة منها.

يشبه استيلاء الجيش على مقاليد السلطة في مالي وغينيا وبوركينا فاسو والنيجر باقي النزاعات الدموية في المستعمرات الفرنسية، لكن تجدر الإشارة إلى أن معظم هذه الانقلابات مدفوعة بقوة داخلية بارزة لا يجب إغفالها

في وجه ما، يشبه استيلاء الجيش على مقاليد السلطة في مالي وغينيا وبوركينا فاسو والنيجر باقي النزاعات الدموية في المستعمرات الفرنسية، لكن تجدر الإشارة إلى أن معظم هذه الانقلابات مدفوعة بقوة داخلية بارزة لا يجب إغفالها. وبحسب ما يذهب إليه أشيل مبيمبي (استعاضت فرنسا مؤخرًا عن القمة الإفريقية الفرنسية، لتنظيم حوار فرنسي إفريقي تحت إشرافه). يجب أن نقرأ أحداث الساحل أنها مرحلة فيصلية تنذر بنهاية حتمية لدورة بدأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وستستمر قرابة قرن حسبما يستشرف أشيل، لتجاوز مأزق التبعية الاستعمارية التي ظلت تدير العلاقات الفرنسية مع القارة.

صحيح أنه ثمة ضرورة لفتح أفق جديد بين فرنسا ومستعمراتها الإفريقية لتجاوز منطق التبعية الذي يتصف به القادة الحاليون، لكن لا يستقيم "الحوار الحضاري" مع فرنسا الذي أداره أشيل، مع استمرار تواجد القواعد العسكرية الفرنسية، في السنغال وساحل العاج والجابون وتشاد وجيبوتي. ومع هيمنة المجموعات الاقتصادية التي تعمل لصالح فرنسا مثل "الإكواس" التي تسيطر على الاقتصادات المحلية وتتلاعب بيها من خلال عمولة CFA المفروضة على البنوك. وهي قاعدة استعمارية واضحة. المثير، أن فرنسا تدفع حاليًا فرض الديمقراطية على النيجر، من خلال التلويح بالتدخل العسكري من خلال "الإكواس".

هذه الازدواجية الوقحة، تجعل الناس العاديين يؤيدون الانقلابات، خصوصًا في البلدان التي خضعت بالاستغلال الطويل الاستعماري الذي مارسته فرنسا، والقوى الأوروبية (المانحة) بحيث أن شروطها أوصلت شرائح اجتماعية واسعة على حافة الفقر. وجرت، تحولات اجتماعية كبيرة خلاصتها تصاعد النضال من أجل العيش، خصوًصا في التخوم، في ظل تضعضع الأنظمة الموالية للغرب في مالي وبوركينافاسو وجمهورية إفريقيا الوسطى، والآن في النيجَر. وهذا ما يفسر الدعم الشعبي الهائل لهذه الانقلابات.

 

فالتأييد الشعبي العارم للانقلابات هو احتجاج شعبي متصاعد، ونتيجة لسياسات الإفقار الطويلة الأمد، هذا ما يترجم رفضهم للحكومات المتحالفة والشريكة مع فرنسا (من المفارقات الهائلة أن مواطني أهم منطقة مصدرة لليورانيوم لفرنسا لا تحصد سوى أمراض النفايات). وهذا ما انتبه له الانقلابيون الجدد بوعي. فأغلب هؤلاء الانقلابيون الشباب الذي يوسمون بالسانكريون الجديد (خصوصًا في مالي وبروكينا فاسو) هم شباب يتولون السلطة بدعوى وطنية وثورية، وأول ما يبدأون به هو طرد الشركات الفرنسية، وفسخ العقود "الاستعمارية" معها. هذا مد ثوري محمود ضد استغلال الشركات الفرنسية تحديدًا. لكن مشكلته أنه خطابي واستبدادي، فمثلًا، ألقى إبراهيم تراوري خطبة ببذلته العسكرية في القمة الروسية الإفريقية. "لمواجه أكثر أشكال الاستعمار الجديد والإمبريالية همجية وعنفًا". وسخر من حقوق الإنسان "الغربية"، (كان من الظريف الابتسامة العريضة التي علت وجه بوتين أمام هذا الثوري الجديد ضد الغرب وهو يندد بحقوق الإنسان)، وقوبل أثناء عودته، في العاصمة ياموسوكرو، كبطل تاريخي.

صحيح أن هذا المد الشعبي لدعم الانقلابات في مجتمعات الساحل يستفيد من أخطاء الحكومات الفاسدة الرثة والفاشلة، والمنتخبة ديمقراطيًّا، فالرئيس محمد بازوم، والذي وصل الحكم قبل عامين فقط من خلال شرعية صندوق الاقتراع، يتمسح بالغرب الآن، وفي مرحلة حرجة، في مقابل "الجماهير" الرافضة له ولسياساته. وهي مفارقة صارخة أيضًا في الديمقراطية الإفريقية، كتب بازوم في أول بيان طويل منذ الانقلاب عليه مقالة طويلة في صحيفة واشنطن بوست يدعو الحكومة الأمريكية والمجتمع الدولي إلى استعادة النظام الدستوري. وهي دعوة صريحة للتدخل العسكري، الذي تخططه مجموعة "اكواس"، عبر نيجيريا والسنغال.

يقر أشيل مبيبي محقًا أن إفريقيا دخلت دورة تاريخية جديدة. إذا تم وضع الأفارقة لمرة أخيرة أمام مسؤولياتهم، فلن يكون لديهم أي مهرب بعد الآن للوم فرنسا والاستعمار. هذا صحيح، القارة، والساحل بالتحديد، بدأ يتحرر من خنق الاستعمار الفرنسي الطويل الأمد. ما يجب العمل عليه هو التركيز على البناء الذاتي، فمنذ الستينيات، مر بالقارة قادة يجملون طموحات كبيرة، وكانت الشعوب دائمًا تخرج لتأييدهم. فقط في حالات نادرة، اتصف هؤلاء القادة برؤى وطنية تنموية، لكنها سرعان ما أجهزت عليهم القوى الاستعمارية، لكن غالب التجارب الثورية الإفريقية انتهت إلى سلطوية واستبدادية محضة. وهذا هو ملخص جميع تجارب أنحاء القارة التي حملت وعود التغيير.

يتخيل المرء أن مسيرات احتشاد النيجريين لحرق علم فرنسا كأنه غد جديد للتحرر، وبداية لتصحيح تاريخ طويل ومن الاستغلال والنهب الفرنسي. لكننا نفاجئ أن هذه الاحتشاد ترفع علم روسيا في الوقت الذي تدوس بعلم فرنسا

لوهلة، يتخيل المرء أن مسيرات احتشاد النيجريين لحرق علم فرنسا، ولعن الاستعمار وكأنه غد جديد للتحرر، وبداية لتصحيح تاريخ طويل ومن الاستغلال والنهب الفرنسي. لكننا نفاجئ أن هذه الاحتشاد ترفع علم روسيا في الوقت الذي تدوس بعلم فرنسا، إن التفكير بإفريقيا ليس بحاجة إلى استبدال علم بعلم بآخر، وراعٍ بآخر، فلا ريب، أن روسيا وفاغنر سيكونان أسوأ بكثير من فرنسا في نهب واستغلال ثروات وخيرات النيجر. وليس كافيًا أن تطرد فرنسا وتستبدل بمليشيات أخرى في محلها.

يتوجب الحذر كثيرًا مما سماه البعض بظاهرة السانكاريون الجدد، (نسبة الى توماس سنكارا وهو ضابط بوركينابي شاب سيطر على السلطة في بلاده من خلال انقلاب حظي بدعم شعبي في عام 1983، وأعاد تسمية بلاده من فولتا العليا لتصبح بوركينا فاسو، ومعناه "أرض الشرفاء"). صحيح أنه حارب الإمبريالية، لكنه، وهذا هو الأهم، حقّق تنمية فعليّة في بلده. وأصبحت بوركينا فاسو أول دولة إفريقية مكتفية ذاتية. لكنه اغتيل من قبل رفيقه بمشاركة المخابرات الفرنسية.

هل سينجح تارو وغيره من الانقلابيين الجدد؟ أم سيكونون نسخة من البلاغة الخطابية الافريقية التحررية التي يمثله موسفيني الذي كان في عز شبابه وثوريته يكتب أطروحة فلسفية رائعة عن فرانز فانون مبشرًا بغد إفريقي جديد، والآن تحول إلى أطول رئيس في إفريقيا في الحكم؟

يحذر أشيل، من هذه "النسخة الفقيرة والمغشوشة من "السيادة الجديدة" التي يحاول الروس دعمها من أجل إضفاء الشرعية على وجودهم في إفريقيا جنوب الصحراء. فالتغيير بالانقلابات العسكرية ليس قدرية تاريخية على إفريقيا. إن الأحداث الأخيرة في جمهورية النيجر بمثابة تذكير بهذه المسألة. وعمليًا، وبدون تحقيق الوعود التي قطعوها بتنظيم انتخابات شعبية، حسب ما تطالبه القوة المدنية، سيكون تكرًرا لما شهدناه من قبل الانقلابيين.

الأكيد أن إفريقيا ليست محكومة بين الاختيار بين التدخل العسكري الخارجي لفرض الديمقراطية. وبين الحكم العسكري "الثوري دائمًا"، فكلاهما يسرقان مستقبل إفريقيا.