30-أغسطس-2016

يعاني سائقو الشاحنات من إرهاق وقلق دائم(دي أغوستيني/Getty)

بغضّ النظر عن كونها بُنيت بذوق أو برداءة، ووفق الشروط المقاومة للزلازل والفيضانات أو بعيدًا عنها، وفوق أرض فلاحية كان ينبغي أن تبقى فلاحية أو فوق أرض صالحة للبناء، وذهابها كاملة إلى مستحقيها أو إلى غيرهم، فلمقاربة هذه العناصر سياق آخر، إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أن الحكومة والشعب معًا في الجزائر، شيّدا عددًا مثيرًا للدهشة من البيوت والمتاجر والمستودعات والإدارات والطرق والسدود والجامعات والجسور والمرافق العامة والخاصة.

في ظل غياب نقابة لسائقي الشاحنات في الجزائر، يقول هؤلاء إن وضعهم القانوني مجهول كما يعانون من حالات إرهاق وقلق وخوف

تقول الحكومة إنها أنجزت في الأعوام الخمسة عشر الأخيرة ما يجعلها جديرة بالثناء، من ذلك 2.7 مليون وحدة سكنية، ومدّدت شبكة السكك الحديدية إلى 3800 كيلومتر إلى غاية عام 2013، بعد أن كانت 1769 كيلومترًا عام 2000، وأطلقت مترو الجزائر العاصمة ووهران، والترامواي في ستّ مدن، ورمّمت 12 ميناء تجاريًا، وهيّأت 25 وحدة للنقل الجوي، وأنجزت طريقًا سريعًا يربط الشرق بالغرب طوله 1700 كيلومتر.

اقرأ/ي أيضًا: الجزائريون لسائق الأجرة: "نثق بك"

في المقابل، يشكّل البناء حقلًا لتفاخر المواطنين فيما بينهم، واستعراض عضلاتهم وأموالهم، إلى درجة أنهم باتوا يحدّدون قيمة الإنسان بضخامة المسكن أو المتجر الذي يملكه، لا بجماله وتوفره على عناصر الراحة، مما جعل مئات التجمعات السكنية المستحدثة تنتشر كالفطر في الجهات الأربع للبلاد.

وتُقابِل انتباهَ العيون والأفواه والأقلام إلى هذه المنجزات، غفلةٌ عن العناصر البشرية، التي ساهمت في تحقيقها على أرض الواقع، بكل ما ترتب عن ذلك من أتعاب وأمراض وإصابات، وصلت في بعض الحالات إلى فقدان الحياة، وتضحية باللحظات الحميمة مع الأهل والأحباب. يأتي سائقو الشاحنات الناقلة للسلع مسافاتٍ طويلة، في ظل شبكة سككٍ حديدية محدودة، بالمقارنة مع مساحة البلاد، 2.5 مليون كيلومتر مربع، في صدارة هذه العناصر المغفول عنها.

بمجرد أن ننخرط في طريق جزائري، وطنيًا كان أم ولائيًا، ومزدوجًا كان أم أحاديًا، 112.696 كيلومترًا إلى غاية عام 2014، حتى تصادفنا عشرات الشاحنات الكبيرة المحملة بمواد البناء، وبالسلع الاستهلاكية المختلفة، وتؤكد ألواح ترقيمها أنها قادمة من المحافظات الثماني والأربعين، علمًا أن مساحة بعض المحافظات تساوي ضعف مساحة فرنسا، مما يشير بالضرورة إلى أن سائقيها في حالة تعب وإرهاق.

اقرأ/ي أيضًا: "العودة".. خيبة أمل جزائرية

يقول السائق بوجمعة منصوري، الذي رافقناه على متن شاحنته من الجزائر العاصمة إلى برج بوعريريج، 200 كيلومتر شرقًا، إن غياب نقابة لسائقي الشاحنات، يجعل عددهم ووضعهم القانوني مجهولًا، "نشبه أطفالًا لأب مهمل، يضربهم حين يسيئون ويغفل عنهم عند الإحسان، لا أحد يفكر فينا إلا أهلنا، وهم أنفسهم لا يستطيعون أن يعرفوا حجم معاناتنا بالضبط".

يعاني سائقو الشاحنات من حالات إرهاق وقلق وخوف(الترا صوت)

يرصد محدثنا بعض تجليات هذه المعاناة: "صحيًا، يعاني سائق الشاحنة من السمنة، على مستوى البطن والكتفين خاصة، بالنظر إلى أنه يأكل ولا يتحرّك، وهو وضع يجلب أمراضًا أخرى تتعلّق مثلًا بالكلى والمعدة، وتنتابه نوبات عصبية مفاجئة، بالنظر إلى حالات الإرهاق والخوف والقلق، التي تمليها طبيعة يومياته وليلياته، إذ يحدث أن يمكث داخل شاحنته أسبوعًا أو يزيد سائقًا ونائمًا، في مناطق قد تكون معزولة، ولا تصلها حتى موجات الإذاعة".

يختلف وضع السائق المنتمي إلى شركة من الشركات، عن السائق الذي يشتغل لحسابه أو لحساب شخص آخر، من حيث الأجر والتأمين الصحي

يسترسل بوجمعة: "حياة العزلة هذه تعزّز عادة الصمت والانطواء، فنحن نبدو باردين عند عودتنا إلى بيوتنا، ومجرد التفكير في أن أيام العطلة محدودة جدًّا، يجعلنا نصاب بالكآبة في عزّ ضجيج الأسرة. هذا ما يفسّر البحث الدائم لسائق الشاحنة عمّن يرافقه في خرجاته الطويلة، قد يكون أخاه أو صديقه أو جاره، شريطة أن يكون دون عمل، حتى لا يتأثر بطول الغياب".

لا تنتهي المعاناة، يقول بوجمعة، بوصولي إلى مكان تحميل السلعة أو تفريغها، "ذلك أنني أجد نفسي ملزمًا باحترام الدور في طابور قد يحملني على الصبر يومًا وليلة، حيث لا تستطيع أن تبتعد عن شاحنتك أكثر من عشر دقائق، لأنك ملزم بملء الفراغ الذي تحدثه حركة الطابور. هذا الوضع يحتّم عليك أن تحضر معك مسبقًا ما يُؤكل ويُشرب، فقد لا تجد أحدًا يخدمك في هذا الباب، كما أن بعض محطات التحميل والتفريغ لا تتوفر على محالّ تجارية". يعود إلى الجانب الصحي: "يدفع هذا الموقف بعضهم إلى أكل أي شيء، والإكثار من القهوة والشاي، وربما من الحبوب، حتى يتغلبوا على دواعي النوم غير المسموح به، مما يجعلهم عرضة للأمراض المختلفة".

ويختلف وضع السائق المنتمي إلى شركة من الشركات، عن السائق الذي يشتغل لحسابه أو لحساب شخص آخر، من حيث الأجر والتأمين الصحي. يقول: "حدث للعشرات ممن يشتغلون بلا تأمين أن أصيبوا بأمراض مزمنة أو عاهات في حوادث مرور، فوجدوا أنفسهم في مواجهة الفقر، الذي قبلوا بهذه المهنة القاسية في البداية هروبًا منه". يواصل بتأثر: "ليس بسيطًا أن يرحل فرد من العائلة أو الجيران فجأة فلا تحضر جنازته، فقد تكون على بعد ألف كيلومتر حين يتصلون بك، هذا إذا كانت شبكة الاتصال متاحة في البقعة، التي تتواجد فيها، وليس بسيطًا أن تعود إلى البيت، فتجد زوجتك قد وضعت مولودًا أو أن أخاك جلب عروسًا. صحيح أنها مهنة جالبة للمال، في حدود ما يُغنيك عن الآخرين، لكن.. هل المال هو كلّ دواعي السعادة في الحياة؟".

من المؤسف، يختم محدثنا الذي قال إن مهنته تسببت في طلاقه، أن "ينسى الناس أفضالنا هذه عليهم، وما نعانيه من أجل أن نوفر لهم حاجاتهم المختلفة من السلع، بما في ذلك الماء والطعام، ويركزوا على سلبيات الكثير منها هو مجرد إشاعات وتعسفات. إننا نتلقى لعنات الناس يوميًا بحجة أننا سبب رئيسي في الزحمة وحوادث المرور، ونتلقى أخرى من طرف العملاء ورؤساء العمل، بسبب التأخر الذي تحدثه الزحمة أو الأعطال المختلفة. ليت الوقت كان كافيًا، لأسرد المعاناة الناجمة عن الأعطال في بقعة معزولة". 

اقرأ/ي أيضًا: 

السارق في الجزائر.. من خائن إلى بطل

مطالب بتصنيف الصحافة ضمن المهن الشاقة في الجزائر

يعاني سائقو الشاحنات من حالات إرهاق وقلق وخوف(الترا صوت)