14-مايو-2016

بمن مشروع للمصور جابر العظمة/ سوريا

قبل عصر الإنترنت، وقبل الفتوحات التاريخية التي دشنها البريد الإلكتروني؛ كانت الصحف العربية تعتمد على طرق بدائية، ولا صحافية في الوقت نفسه، من أجل تأمين موادها، في عملية لا تختلف كثيرًا عن المقاولات، أو حتّى القوادة، إذ يقوم صحافيّ مخضرم في العلاقات النفعية بافتتاح مكتب مهمته مراسلة صحف ومجلات محددة، وضخّ جميع أقسامها بنوع من المقالات التي تصلح لأي زمان ومكان، والتي تكون موقَّعةً باسم "مكتب دمشق".

أحد الأصدقاء اخترق أحد هذه المكاتب بشطارة جيمس بوندية، في عملية ارتقت لدينا إلى مستوى البطولة، لكنّ البطولة الأكبر كانت في إقناعه صاحب المكتب أنّ لديه فريقًا من الصحافيين الشباب، الذين يستطيعون تغطية كل الجوانب المطلوبة، بسرعة وجودة.

فرحنا لفرصة العمل التي انتزعها ذلك الصديق الشهم لأصدقائه الفقراء الذين يطوفون على الصحف، تردهم المقالة والمقالتان، وتقلصت أمعاؤنا فرحًا بالعمل الجديد وشعرنا بالجوع، لكننا سرعان ما وجدنا أننا فرصة عمل أخرى بالنسبة لجيمس بوندنا، إذ طلب، بثقة من يدرك أنه لن يسمع "لا"، وبنبرة تشبه من اصطاد سمكة ضخمة بين مجموعة من الصيادين الفاشلين؛ أن نتنازل له عن ما يعادل 40% من كل مقال نقبض ثمنه. وافقنا جميعًا. مرّت عيوننا بنظرة فقر وعوزٍ على بعضها البعض بينما أمعاؤنا تتقلص غضبًا لما نفعله بها، فهزّت رؤوسنا نفْسَهَا بالموافقة هزّاتٍ راحت تزداد قوة وتأكيدًا، حين أضاف ذلك الجيمس بوند أنّ القبض سيكون حال تسليم المواد.

في اللقاء الأول مع مقاول الصحافة، قدّم كل منا مقالًا متعوبًا عليه. قرأ الرجل بهدوء وضحك معلقًا "يبدو أن الشباب مثقفين"، وبعد ذلك وضع لائحة بالعبارات الممنوعة الاستعمال مثل: "لم يتسنَ، لا بدّ.."، وكذلك كلمات مثل: "حيثيات، مكرّس، بواكير، الناصية.."، والتفت إلى صديقٍ كنا نسميه الناقد، وأخبره أنه لن يأخذ أية مقالة تحتوي أسماء مثل: تودوروف، ودريدا. لفظها بطريقة جعلت من تودوروف ماركة السجائر "دافيدوف"، بينما تعامل مع دريدا على أنه العلم المؤنث من اسم العلم المذكر "دُريد".

وقف المقاول الصحافي ليودعنا بخيبة أمل كبيرة، فلمحنا مسدسًا مستقرًا على خصره، وخفنا أن تحدق بنا فوهة المسدس. مضينا ولم يكن صعبًا أن نعرف هوية الرجل، لكننا احترنا بعدها في النقاش أهو من رجال المخابرات وهذا المكتب جزء من الممتلكات الأمنية؟ أم أنه حصل عليه بسبب علاقاته الأمنية؟

كنا مخذولين كمجموعة طردت من حفلة عرس، بعد خلاف على طلب أغنية معينة، أو بعد شجار على من يمسك برأس الدبكة. 

في اللقاء الثاني، أحضر كلٌّ منا مقالًا جديدًا، بذل فيه جهدًا خارقًا ليبدو تافهًا كما هو مطلوب، ما عدا صديقنا الناقد فقد جلب خمس مقالات، اثنين منها عن مغنيتين لبنانيتين صاعدتين (صارتا من كلاسيكيات الغناء العربي بالنسبة إلى تفاهات هذه اليوم)، ومقالين عن سوقين شعبيين، أما الأخير فكان مقالًا فلكوريًا عن طريقة تحضير البدو للقهوة العربية.

تأثر المقاول كثيرًا بمقال القهوة العربية إلى درجة أننا رحنا نشتم رائحة الهيل في مكتبه، فاكتشفنا عند ذلك أن الرجل شاعر حين استل من أحد الأدراج أجندةً صغيرةً، وراح يقلبها ليقرأ علينا قصيدة موزونة، أتذكر منها عبارة: "يا قهوةَ الأحباب في الصحراء". وحين انتهى عاد وحيّا الناقد ثانيةً، ورفع فنجان القهوة السادة الذي كان أمامه وهزه كمن يهز فنجان القهوة العربية. بعد ذلك، أطلق عدّة نكات تراثية في عملية استعراض بائسة، أراد من خلالها أن يرينا أنه مثقف، وأن طبيعة سوق العمل الصحافي هي من تفرض عليه أن يبحث عن المقالات الخفيفة. لا أزال حائرًا لماذا يحبّ هذا النوع من البشر النوادر والمِلَح التراثية؟! 

بينما يداه تعدان ثمن المقالات الخمس قال للناقد: "المطربات الصاعدات هنّ من سيجعلنك تأكل خبزًا، وليس ذلك الدافيدوف". كان المبلغ الذي قبضه صديقنا أمامنا بمثابة درس في الكتابة الصحافية، وخلال أسبوع واحد صرنا جميعًا مثله، وصارت رائحة الهال تطغى على المقالات حتى لو لم تكن عن القهوة، ونجح مشروع صديقنا القوّاد الصحافي الصغير أيضًا، الذي راح يطوّر أعماله معنا بطريقة راحت تتجه نحو الاحترافية مع الوقت، وصارت نسبته من مقالاتنا تزيد كلما احتجنا إلى شيء منه، لا سيما استعارة شقته الصغيرة لأغراض عاطفية، حيث باتت التسعيرة الثابتة هي ثمن مقال لنصف نهار، وثمن مقالين، بهالٍ كثير، لقضاء ليلة كاملة.

شخصيًا توصلتُ إلى آلية عمل مريحة، استفاد منها الأصدقاء على الفور، وتحوّلتْ مع الوقت إلى قواعد أساسية يستند عليها الجميع ويعملون على الإضافة إليها: 
أولًا- لا تكتبْ عن كتاب بدون مقدمة، بل لا تكتب عن كتاب مقدمته ليست طويلة. يجب أن يكون المقال إعادة تحرير للمقدمة، طبعًا مع وضع بعض الفقرات بين علامتي تنصيص من باب ادعاء الأمانة الصحافية، لتوحي أن ما هو خارج التنصيص يعود إلى بنات أفكارك الخصبة الولّادة.

ثانيًا- لا تجر مقابلة إلا مع كاتب/ـة أو فنان/ـة متواضع المستوى. فمع هؤلاء لا تحتاج أن تقرأ لهم لتستخرج أسئلة، بل إنهم لن يتوانوا عن إمدادك بالأسئلة إضافة إلى الأجوبة. تقريبًا هم يأخذون العمل على عاتقهم، فيسألون ويجيبون. وهنا لا بد من أن أثبت نقطة وردت في مقابلة شاعر مع نفسه، أرادها موسّعة تشمل كل مراحله الإبداعية العظيمة، حيث يسأل نفسه عن سر إلهامه، ويجيب ضمن ديباجة طويلة جدًا أن زوجته سر الإلهام. المضحك في الأمر أن من يعرفونه يعرفون تمامًا أي لعنة كانتها تلك الزوجة التي تظل تطرده من البيت.

ثالثًا- اجمع معلومات عامة عن معالم المدينة، وضعها في قالب مقال، ثم وزّع بعض المعلومات على ألسنة أشخاص مُخترعين، مع وضع أسمائهم على شكل رموز: مها. م (طالبة)، محمود. ع. ك (تاجر)، سعيد. ق (محامٍ).

سارت الأمور على مايرام، لكن الكوميديا الكبرى في تلك التجربة كانت في الصور. وقتها لم تكن الكاميرات بالسهولة التي باتت عليها الكاميرات الرقمية في وقتنا، وكان من الصعب جدًا التعاقد مع مصوّر لكون كمية كبيرة من ثمن المقال تضيع بين القوادين الصحافيين، الكبير منهما والصغير، ولأجل تجاوز هذه العقبة رحنا نعتمد على ألبومات الصور العائلية. وضعتُ صور أعمامي وأخوالي بدلًا من الروائيين والشعراء، وسرقتُ صورة لابنة خالتي قبل أن تتحجب لأضعها مكان شاعرة كتبت مجموعة شعر أيروتيكية. 

كذلك فعل الأصدقاء، وضع أحدهم صورة جده العجوز، واضعًا يده على جبينه اتقاء للشمس، لمقابلة ملفّقة بالكامل مع أحد المحاربين القدماء. آخر قام بنشر صورة معاق من حارتهم، استعمل حبّ أخت ذلك المعاق له للحصول عليها، ليضعها مع تقريرٍ يروي فيه فوز أحد أصحاب الاحتياجات الخاصة بميدالية فضية في إحدى المسابقات المحلية.

وكما كانت الصور نوعًا من الحل وتسريع وتيرة العمل، فاجأتنا بأنها كانت نوعًا من الكارثة، حين احتج أحد المواطنين في الدولة التي تصدر إحدى المجلات على وضع صورة والده مع مقال يتحدث عن الغجر. عرفنا بعد تقصٍ أن الناقد سطا على ألبومات تعود إلى عمه الذي يعيش في دولة خليجية، ويبدو أن لعنة الصدفة جعلته يختار صورة ستنشر في بلد صاحبها. 

اقرأ/ي أيضًا:

ابتسامات لمواطن شريف

صغيرًا في بلاد.. كبيرًا في أخرى