05-نوفمبر-2023
جاكسون هينكل

صار هينكل نجم الإعلام العربي منذ بداية العدوان على غزة (الترا صوت)

"أعظم تلت رجال في ساحة المعركة حاليًا، يضربون بقوة ولا يبالوا، أبو عبيدة - إيلون ماسك - جاكسون هينكل. كل واحد بيضرب حسب مجاله، والتلاتة أعظم من بعض". انتشرت هذه التغريدة بشكل كبير بين مستخدمي موقع "إكس" (تويتر سابقًا) الناطقين بالعربية، بعدما جمعت ثلاثيًا لم يتخيل عاقل أن يُجمَعوا في مديح واحد.

ليست السطور التالية تفنيدًا لعبثية ذلك الجمع والحاجة المُلحّة لوجود بطل "المتمثّلين" في التغريدة، بل تفكيكًا لماضي شخصية وصولية مثيرة للجدل أُلبست ثوبًا لم يلق بها بين ليلةٍ وضحاها: جاكسون هينكل.

صار هينكل نجم الإعلام العربي منذ بداية الحرب الشاملة التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة في أعقاب عملية "طوفان الأقصى"

وسواء كنت ممن يستخدمون منصة "إكس" باستمرار أم لا، أو كنت من متابعي هينكل أم لا، وبغض النظر عما إذا كان لديك حسابًا على المنصة أم لا؛ فلا بدّ أنك قرأت اسمه في مكانٍ ما، أو شاهدت من يحتفي بتغريداته المعادية لـ"إسرائيل" على الأقل. كيف لا وهو صاحب الحساب الأعلى وصولًا على منصة إكس، متجاوزًا صاحبها إيلون ماسك نفسه، الذي يوجّه موظفيه صراحةً لتضخيم وصول تغريداته.

لم تكن التغريدة المُقتبسة في مطلع المقالة حالةً شعبية فردية، إذ صار هينكل نجم الإعلام العربي منذ بداية الحرب الشاملة التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة في أعقاب عملية "طوفان الأقصى"، حيث سارعت قنوات تلفزيونية كبرى لاستضافته، مثل "الجزيرة"، و"روسيا اليوم"، و"الغد" التي احتفت بمواصلته "فضح وحشية إسرائيل ضد الأطفال الفلسطينيين" في تقرير مكتوب استعرضت فيه عددًا من التغريدات التي نشرها خلال الأيام الماضية، من بين وسائل إعلامية أخرى.

جاكسون هينكل يمجّد بوتين ويغازل نتنياهو

قبل عملية "طوفان الأقصى" والتصاعد الجنوني للأحداث، كان نشاط هينكل الأساسي يتركّز في "يوتيوب" من خلال قناة – أُغلقت منذ أشهر قليلة – اسمها "الغوص مع جاكسون هينكل" (The Dive with Jackson Hinkle)، حيث كان يقدّم "تحليلات" للسياسة الأميركية الداخلية والخارجية مع الكثير من نظريات المؤامرة حول مفهوم الدولة العميقة، والكثير من الأفكار المعادية للحكومة (Anti-government).

بدأت شهرة برنامجه خلال جائحة كوفيد – 19، إذ كان من متصدّري الخطاب المؤامراتي المناهض للّقاح، ثم ازدادت مع الحرب الروسية على أوكرانيا، حيث أخذ على عاتقه تجميل الغزو وتبريره كضرورة لإعادة التوازن لقطبية العالم. وكنتيجة حتمية لانتمائه إلى "المحور الروسي"، لم يتوقف هينكل عن التغزل ببشار الأسد ووصفِهِ بـ"البطل"، بل وحتى نجله حافظ الذي قارن "نجاحه" بحصوله على شهادة الماستر في الرياضيات بفشل نجل الرئيس الأميركي جو بايدن، هنتر، الذي تلاحقه قضايا المخدرات.

لا يمكن قراءة مواقف هينكل الحالية المعادية لـ"إسرائيل" بمعزل عن سياقها الأوسع الذي ينهض على عاملين: مواقفه من الإدارة الأميركية الحالية ودعمها اللامشروط لإسرائيل وأوكرانيا (لا قضية فلسطين نفسها)، إذ لطالما عُرف بترويجه لحملة الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب وحملته "لنجعل أميركا عظيمة مجددًا" (MAGA)؛ وارتباطاته المباشرة مع شخصيات روسية قريبة من الكرملين، أو مُتحكّم بها عن طريقه، كخطيبته آنا لينيكوفا، ملكة جمال روسيا.

ومطلع العام الحالي، ازداد حديث هينكل عن "التعددية القطبية" في العالم وقلب النظام العالمي، وذلك في الوقت الذي ازداد فيه حديث البروباغندا الروسية، وأتباعها في سوريا وبيلاروسيا وغيرها، عن سياسة "الانزياحات الكبرى".

وكما الإعلام الحكومي لتلك الدول، أرجع هينكل الفضل في ذلك لـ"عملية بوتين العسكرية في أوكرانيا"، إذ كتب في إحدى تغريداته أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: "قادنا إلى عالم جديد متعدد الأقطاب". ونشر بعد تغريدته هذه بأيام تغريدة أخرى قال فيها: "أريد الإيضاح لكل من يدّعي أنني أدعم العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا.. أنا أدعمها بالفعل!".

كان ذلك سيبدو محاولة لقولبة المواقف حيال قضايا معينة وانتقادها لمجرد عدم اتفاقنا معها لو صدرت تلك الآراء من شخصٍ عابر، إذ قد يقول السائل: "وما علاقة ذلك بمواقف هينكل من إسرائيل والحرب الحالية على غزة؟"، إلا أن الجانب الأكثر إثارة للاهتمام في خطاب التعددية القطبية الذي تبنّاه وروّج له، عند النظر إليه في سياق الحرب الإسرائيلية على غزة، هو أن هينكل نفسه، الذي لم يتوقف منذ أسابيع عن نعت نتنياهو بــ"المجرم الصهيوني"، قال في إحدى حلقات برنامجه على يوتيوب، منذ عشرة أشهر فقط، إنه سعيدٌ بوجود نتنياهو في سدة الحكم في إسرائيل بدلًا من التحالف (اليساري) الذي سبقه، لما في ذلك من مصلحةٍ للعالم متعدد الأقطاب بفضل علاقاته مع القيادتين الصينية والروسية.

ضلوع في شبكات تبييض صورة الأسد

أما عام 2021، فكان عام تلميع صورة بشار الأسد بالنسبة لهينكل، إذ حاز على جائزة "سيرينا شيم للنزاهة المطلقة في الصحافة"، دون أن يُحدد العمل الذي فاز بالجائزة عنه، بل اكتفى بشكر الأصوات التي أثرت على مواقفه "المعادية للإمبريالية"، بيد أن الجهة المانحة للجائزة، "جمعية الاستثمار في لجان العمل الشعبي"، شابها قليلٌ من الغموض والكثير من الشك، فهي مؤسسة غير ربحية مقرها سان فرانسيسكو، وأمين صندوقها بول لارودي، وهي الهيئة الأم لـ"حركة التضامن السورية" الداعمة للحزب السوري القومي الاجتماعي.

قبل عشرة أشهر فقط، قال هينكل إنه سعيدٌ جدًا بوجود نتنياهو في سدة الحكم في إسرائيل

تم إنشاء "حركة التضامن السورية" في عام 2013 لتسهيل جولة التحدث في أميركا الشمالية لأغنيس مريم دي لا كروا، وهي راهبة قالت إن الهجمات الكيميائية في سوريا، مثل الغوطة في عام 2013، ارتكبها "المتمردون". وفي عام 2014، أرسلت الحركة وفدًا، تضمّن لارودي، إلى سوريا لمراقبة الانتخابات الرئاسية، والتي استضافها الاتحاد الدولي للأمة الموحدة، وهي منظمة إيرانية غير حكومية.

وفي صباح يوم الانتخابات، أعلن الوفد أن "الاستفتاء على وشك إظهار الحجم الحقيقي للدعم الشعبي الذي يتمتع به الرئيس الأسد داخل البلاد، ومقاومته ببطولة للعدوان المدعوم من الخارج لأكثر من ثلاث سنوات". وظهر لارودي على شاشة التلفزيون السوري الرسمي خلال الزيارة، التي علّق عليها قائلًا: "من السهل أن نظهر كمدافعين عن الأسد عندما نعمل على تصحيح المعلومات الكاذبة في وسائل الإعلام الغربية المعادية".

توالت بعد ذلك تعليقات ونشاطات لارودي و"حركة التضامن السورية" الداعمة صراحةً للنظام السوري. ففي 2017، قال لارودي إنه: "لا يهتم بكون الأسد ديكتاتورًا". وفي عام 2019 سافر لارودي إلى سوريا للمشاركة في المنتدى النقابي الدولي الثالث برئاسة بشار الأسد. وفي أيار/ مايو 2021، ذهب مع "حركة التضامن السورية" في جولة رعاها النظام لـ "مشاهدة الانتخابات الرئاسية في سوريا والتحقيق في ظروف الحياة السورية على الأرض في الفترة الحالية". وخلصت المجموعة إلى أن "إعادة انتخاب الرئيس بشار الأسد، من حزب البعث العربي الاشتراكي والجبهة الوطنية التقدمية، هي التعبير الشرعي والديمقراطي عن الشعب السوري".

تفاديًا للشتّ عن حديث جاكسون هينكل، ولتبيان تماهي مواقفه مع الكيانات الموصوفة أعلاه، نعود إلى عام 2017، إذ وصفت "حركة التضامن السورية" حينها هجمات الأسلحة الكيميائية التي شنها الجيش السوري، مثل هجوم خان شيخون، بأنها عمليات تمويهية قامت بها فصائل المعارضة بهدف تشويه سمعة الحكومة. بعد ذلك بأقل من عام، مع الهجوم الكيميائي على مدينة دوما في ريف دمشق، تبنّى هينكل الخطاب نفسه.

وفي مناظرة نقدية أجرتها قناة "Vaush" على يوتيوب، بُعيد الحادثة، سأل المقدم هينكل عن تفسيره لوجود جثثٍ بأفواه مُزبدة في المقاطع التي انتشرت توثيقًا للهجوم، فراوغ هينكل السؤال بالإجابة بأن ضحايا الهجوم لم تظهر عليهم أي علامات للتعرّض لغاز الأعصاب. واتهم بعد ذلك من وصفهم بـ "محققي المعارضة" بتزوير التحقيقات، بينما نصّ تقرير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية الأولي حول الحادثة، بشكلٍ واضح، على أن نظام الأسد منع المفتشين من الوصول إلى المواقع المحورية.

وبنى هينكل حينها حجته الإنكارية على عاملين أساسيين: الأول هو افتراضه بأنه حتى وإن كان هناك انتشار لغاز الكلور، فإن النوافذ والفتحات التي كانت في الأسقف والمخارج المفتوحة كانت ستسمح للناس بالحصول على هواء نقي، في إنكارٍ صريح لحقيقة أن غاز الكلور أثقل من الهواء بضعفين، ما يعني أن تلك العوامل التي ذكرها هي تمامًا ما ساعدت على نزول الغاز إلى الطوابق السفلية وتفاقم عدد الضحايا المتأثرين.

أما العامل الإنكاري الآخر الذي بنى هينكل حجته عليه، فهو أن المروحيات لا تطير على ارتفاع منخفض أبدًا لتجنب النيران الأرضية في العديد من مواقع الاشتباك، بينما هناك عشرات المقاطع التي تظهر طائرات هليكوبترات روسية وسورية تطير على علوّ منخفض أثناء تنفيذ عملياتها. كما اختتم حجته بأن الأسد لم يكن لديه أي سبب لإطلاق هجوم كيميائي، ذلك أنه كان على وشك النصر، في تغاضٍ تام عن توثيق ما لا يقل عن 349 هجومًا كيميائيًا مؤكدًا في سوريا منذ بداية الحرب.

ووفقًا للمعايير المهنية، فإن جاكسون هينكل ليس المصدر الأفضل للأخبار والمحاججات، فخلال الأيام القليلة الماضية، نشر عشرات الأخبار الزائفة أو المضللة أو التي لا أساس لها من الصحة، ومعظمها يتعلق بالولايات المتحدة. فينشر أحيانًا صورة يدّعي أنها لقصف أميركي حديث على مواقع إيرانية في سوريا، ليتضح أنها من دير الزور. ويروج في أحيان أخرى لمقطع فيديو من رومانيا على أنه لوصول الجنود الأميركيين إلى "إسرائيل".

أخذ جاكسون هينكل على عاتقه تجميل الغزو الروسي لأوكرانيا وتبريره، ولم يتوقف عن التغزل ببشار الأسد ووصفِهِ بـ"البطل"

أو يحمّل صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية عددًا من الادعاءات المتعلقة بأعداد القتلى الإسرائيليين ونسبة الجنود إلى المدنيين، لم تأت على ذكرها الصحيفة. أو يدّعي أن الصين حذفت اسم "إسرائيل" من تطبيقات خرائطها، وأن اليمن أعلنت الحرب رسميًا على "إسرائيل"، وهي لم تفعل ذلك قط.

أما من ناحية مادية أكثر تجريدًا، أطلق هينكل عام 2022، أثناء ذروة ترويجه للحرب الروسية على أوكرانيا خلال برنامجه على يوتيوب، حملة "القمصان الممنوعة" التي باع من خلالها آلاف القمصان السوداء التي حملت حرف "Z" الأبيض، الشعار الذي اتخذه بوتين لعمليته العسكرية.

واليوم، يكتب هينكل في التعريف الخاص بحسابه، وفي تذييل كل تغريدة ينشرها: "ساعدني في كشف دعاة البروباغندا عن طريق الاشتراك في إكس بريميوم مقابل 3 دولارات". فهل ما يحدث الآن هو مجرد "حملة أخرى" تنتهي مع انتهاء الحدث الشاغل للأخبار والرأي العام و"حجم الوصول"، لننتقل إلى حملة جديدة؟

والسؤال الأهم، ماذا لو عاد ترامب إلى البيت الأبيض ومعه الإدارة التي دعمها هينكل لسنوات ويدعم اليوم بوتين صديق ترامب؟

وبحسب مجلة "علم النفس اليوم" (Psychology Today)، نحن نختار الأجزاء من المعلومات التي تجعلنا نشعر بالرضا لأنها تؤكد تحيّزاتنا. وبالتالي قد نصبح سجناء لافتراضاتنا. هذا ما يحصل اليوم مع هينكل، الذي لم يقل حتى الآن سوى ما ترغب شريحة من الجمهور بسماعه، ولم يكن الصحيح منه جديدًا أو حكرًا عليه.

في تدوينة حول الانحياز التأكيدي، يذكرنا المؤلف ديفيد ماكراني بأن "هناك دائمًا شخص ما يرغب في بيع مقل العيون للمعلنين من خلال تقديم جمهور مضمون من الأشخاص الذين يبحثون عن التقدير". وكما ينصح ماكراني، يجب علينا دومًا أن نسأل أنفسنا ما إذا كنا ضمن هذا الجمهور.