06-مارس-2016

مقطع من لوحة لـ حكيم عاقل

تنهدات عميقة تتوسع إلى شهقات يصاحبها صوت حاد متقطع؛ فتنطلق شرارة الغضب لتمتلك عقلية الأب وسرعان ما يقوم تجاه ابنته المصابة بورم سرطاني وينصب عليها ضربًا لدقائق يريد عبر الضرب إسكات أنينها.. تلاعبت بعقله فكرة قتلها عدة مرات ولكنها لا تزال تؤمن له قوت يومه.. يخرُّ غضبه تدريجيًا إلى أن يهدأ ويذهب بعدها لجرِّ دبة غاز الأكسجين المتهالكة فيلجم فمها مصدر إزعاجه الدائم بكمامة تبخها بعض الأكسجين لأنه يعلم بحقيقة إذا ما اشتدت نوبة شهقاتها فإنها قد تموت أو تستسلم لغيبوبة!

يتأمل وجهها وعينيها ويتساءل: لماذا لا تنام ولماذا لا تتوقف عن البكاء.. ينظر باضطراب إلى فمها ويصيح بها: لماذا لا تصمتين!

يقوم من أمامها وهو يرثي لحاله معها ثم يجردها بطانيتها ليضعها تحته ويأتي بمتكأ وقارورة شعير وكيس قات وباكيت سيجارة، ويتموضع بأريحية على بطانيتها ويمضغ قاته وينفث دخانه في أرجاء الغرفة الضيقة مستمتعًا بقدسيته الروتينية التي لايمكن أن يتخلى عنها مشغولًا تفكيره بتخزينة الغد متناسيًا أن ابنته تعاني ضيق تنفس نتيجة ورمها السرطاني الخبيث!

يلفظ بقايا نبتة القات من فمه قبل صلاة المغرب، ومن ثم يلف ابنته ببطانيتها ويرتدي ثيابه الممزقة، ويخرج من بيته حافيًا تاركًا نعله الجلدية وربطة شعرها في بيتهم الغرفة؛ ليظهر بحال الفقر وابنته منكوشة الشعر لا تقوى على الكلام فورم رأسها سلبها الحياة الحسية.

يدخل المسجد مبكرًا عن موعد الصلاة بنصف ساعة، ويصطف في الصف الأول مع جموع المصلين مستقبلًا ابنته إلى أن يتم مع الإمام صلاته ثم يحمل ابنته مجددًا ويقف بسرعة قبل أن يخرج الناس المحتشدون.. يبدأ بكلماته المعتادة: عباد الله.. يا أهل القلوب الرحيمة.. محاولات منه لرقرقة قلوب الحاضرين ودغدغة آذانهم ثم يسرد الآيات والأحاديث التي عكف لساعات يحفظها راغبًا في اجتذاب أي منظمة إنسانية أو جمعية خيرية أو جهة مسؤولة لتدر عليه المال؛ يحكي للناس قصة معاناة ابنته مستدلًا بقصة أمها الأخرى التي ماتت بنفس المرض، وقصص اللعنة الوراثية التي حلت بالعائلة ثم يتثاقل لسانه فلا يقدر على استساغة الكلام ولايجد وقتًا كافيًا لمداهمة حروفه الهاربة؛ فلا ترى سوى نظراته المرتدة من وجه أحدهم لترتطم بوجه آخر، ويظل يلاطمها من وجه إلى وجه حتى يرمي بها إلى الأرض بطأطأة رأسه إلى أن يتكشف ظهره من حدة تقوسه والتصاقه بسجاد المسجد.. كان يتمنى لو أنه أتقن الرعشة التي يجب أن تنتابه لحظة الوقوف لشدة الخزيِّ لكنه ينتظر صامت بضع دقائق ليقوم بعدها بتجميع ما تحصله من أموال منثورة أمام رأسه وابنته المستلقية بجواره.

يخرج من المسجد برجله اليمنى مستشهدًا بالأذكار لعلَّ أحدًا ما يسمعه ويرمي إليه بقطعة نقدية إضافية.. يضع ابنته على رصيف الشارع ويدخل البقالة لشراء باكية من السجائر، ومن ثم يحملها مجددًا عائدًا ليرمي بها إلى الغرفة الضيقة، ذات الحوائط الأربعة التي لا تجد سواها هذه البنت مؤنسًا لها، ويذهب هو لشراء كيس مليء بنبتة القات بقيمة ما كسبه من عمله المضني!

اقرأ/ي أيضًا:

أنا حيّ، أرجوك.. احقنّي بالمورفين

مزراب شوق