21-نوفمبر-2015

بيروت مدينة مستحيلة (أنور عمرو/أ.ف.ب/Getty)

يحدث أن يولد المرء في مستشفى جبل عامل في الجنوب اللبناني، وأن تنتقل عائلته بعد حينٍ إلى منطقة عاليه ليدرس في مدرسة "الجامعة الوطنية"، ثم تنزح العائلة إلى الأشرفية ليكمل دراسته الثانوية في مدرسة الحكمة، وفي يوم التخرج تقرر عائلته العودة إلى الجنوب أثناء احتفاله بقبوله في الجامعة الأميركية في بيروت. ومن تلك اللحظة تبدأ مغامرة التفتيش على السكن الملائم والمناسب اقتصاديًا. من تجربتي الشخصية، وبعد أن ربيت وترعرعت في شارع الحمراء في بيروت، كنت دومًا أحلم بالسكن في إحدى شققها بسبب موقع شارع الحمرا في قلب مدينة بيروت، وبسبب تواجد كل شيء يحتاجه الفرد من حاجات، ضروريات، ورفاهيات، لدرجةٍ أن من يسكن شارع الحمرا لا يحتاج للخروج من المنطقة معظم الأحيان.

أن تكون طالبًا في بيروت تجني 650 دولار شهريًا يعني أن تزيد ديونك 350 دولار على الأقل شهريًّا

نخرج من التجربة الشخصية الشاعرية وندخل إلى الواقع الذي نعيشه. في الـ 2015 أصبح السكن في بيروت شبه مستحيل للطالب الجامعي من جميع الطبقات الاجتماعية، وإضافةً إلى هذا الواقع المرير، فلا يمكن للطالب الجامعي الحصول على شقةٍ تحفظ خصوصيته وتسمح له بالسكن وحده بين كتبه وزائريه، وأكثر من ذلك فأصبح من المستحيل أن يسكن الطالب الجامعي وحده في غرفة داخل منزل يشترك به عدةِ طلاب، فتعرفة التأجير في بيروت لم تعد حسب مستوى الشقة من حيث التأهيل أو نسبةً لمساحتها، فالمؤجرون أصبحوا يعتمدون أسلوب تأجير الغرف وحتى الأسرة في الغرف داخل منازلهم ما يجعلهم يربحون أكثر في مجال تأجير الشقق المفروشة وغير المفروشة في بيروت.

بريسيكا الشعّار وهي طالبة في الجامعة الأمريكية في بيروت تعاني من مشكلة الأسعار المرتفعة في تعرفة إيجارات الغرف والشقق المفروشة في بيروت. "لا أريد شيئًا سوى غرفة صغيرة في محيط الجامعة تستقبلني أنا وأختي بالسعر الذي يمكننا أن نؤمنه شهريًا وهو لا يتعدى الأربعمائة دولار”. تقوم بريسيكا بالتفتيش على ملجأ لتضع أغراضها فيه في بيروت منذ خمسة أشهر، وهي تسكن حاليًا في منطقة "عيناب" التي تبعد مسافة أكثر من عشرين كيلومترًا عن العاصمة اللبنانية. المشكلة هي أن المسؤولين عن الشقق المفروشة أو حتى الغرف غير المفروشة في بيروت أنهم كالسماسرة يضعون المستأجر تحت أمر الواقع أن العاصمة هي للطبقة الغنية وأن من يريد أن يكون قريبًا من مكان عمله أو دراسته عليه أن يتحمل العواقب.

أحمد الطرابلسي وهو نموذج عن المتنقل الدائم في بيروت، فخلال سبعة أشهر انتقل سريره أكثر من خمس مرات في المدينة، يتحدث عن تجربته: "سكنت في الحمرا في ثلاثة منازل، وفي منطقة الظريف وفي منطقة عين الرمانة وفي منطقة الأشرفية-الجعيتاوي، وبالطبع فبمعدل تنقلي قبل وبعد تلك الفترة يمكنني أن أكسر رقميًا قياسيًا في التنقل".

بيروت هي مدينة سوريالية أحيانًا. تُعتبر العاصمة اللبنانية المدينة الأكثر استقبالًا للسائحين والمقيمين والسكان في العالم العربي، ورغم ذلك لم تعد بيروت المدينة التي يمكن للجميع أن يسكنها. أصبحت مدينة بيروت لأصحاب الشيكات وبطاقات الائتمان. لم تعد بيروت المدينة التي يستمتع سكانها وروادها ببساطتها وبتنوع ألوانها البشرية، أصبحت الملهى الليلي الأكبر والبلد كازينو وجميعنا مقامرون أو كما أحب أن أسميها "لعّيبة بلاك جاك". السكن في بيروت أصعب من أن يضيع المرء في نيودلهي. السكن في بيروت أصبح فكرة من الخيال. أن تكون طالبًا تجني ستمائة وخمسين دولار شهريًا يعني أن تزيد ديونك ثلاثمائة وخمسين دولار على الأقل شهريًّا.

"يعني، من يطلب خمسمائة دولار رعبون وإيجار لستة أشهر قبل أن يسلمني مفاتيحي؟ بالطبع إنسان لم يختبر شعور التشرد في بيروت" هكذا يصف الوضع الصعب الطالب جميل السيِّد الذي يدخل بشهره السابع في رحلة التفتيش عن منزل ليرخي عظامه فيه كما يقول أيضًا. لا يجد جميل أي شقة مفروشة صغيرة تعرفة إيجارها أقل من خمسمائة دولار شهريًا، بالإضافة إلى الرعبون الذي يطلبه المؤجرون والسماسرة في لبنان.

"من حقي أن آخذ عشرة بالمائة من تعرفة الإيجار حين أجد شقةً لأحد" يقول طلال، وهو أحد السماسرة الذين يساعدون الطلبة في شارع الحمرا لإيجاد شقق مفروشة ليستأجروها. لكن على أي أساسٍ أو قانون أي مهنةٍ لبنانية يحق لهذا الأخير أن يحول المساعدة إلى تجارة. القانون لا يحمي السمسار، فهو كما أحب أن أسميه، قوّاد الشقق المفروشة في بيروت. يحجز جميع الشقق التي يجدها ويبدأ بالإعلان عنها في الشوارع عبر منشورات أو ينتشر رقم هاتفه الجوال بين طلاب الجامعات. أحيانًا تكون تعرفة إيجار الشقة ألف دولار، لكنه يُسعرها بـألف ومائتي دولار ويقبض ربحه شهريًا من صاحب الملك.

وبالنظر إلى معدل الطلب الذي يفوق معدل العرض في مجال الشقق المفروشة، واعتبار المالكين أن شارع الحمرا هو أهم مقصد سياحي في بيروت، يصبح ارتفاع الأسعار مفهومًا، إضافة إلى كثرة اللاجئين السوريين في تلك المنطقة. المالكون يستغلون حاجة اللاجئين الماسّة لمنزل، وعدم وجود قانون إيجارات يحمي المستأجر، وتغاضي الدولة عن "النصب" الذي يقوم بها سماسرة بيروت. هكذا يضيع الشاب اللبناني ويتشرد في شوارع العاصمة مفتشًا عن ملجأ وسقفٍ يحميه لكي يضع أغراضه في مكانٍ واحد ويتابع حياته بهدوء.

اقرأ/ي أيضًا:
اقتصاد لبنان.. ما ذنب اللجوء!؟
الخيمة تزاحم المباني في موريتانيا