تبدو الدوحة أبراجًا ومجمعاتٍ تجارية ضخمة وجزرًا اصطناعية، لكنها في الواقع مبخرةٌ تطلق روائحها الفريدة طوال الوقت، فما من شارع في الخارج أو ممر في الداخل دون عطور العود والصندل، ما يرغم العابرين في جنباتها بعد وصول الرحلة إلى نهايتها على اعتبار أنهم كانوا في مدينة الأنوف، تلك التي قلَّ أن نزورها، لا في مدينة العيون، تلك التي نكاد لا نعرف سواها.
المبخرة ليست مجازًا وحسب، فنحن نتحدث عن مدينة لا تنبض بالروائح وحسب، بل إن الروائح تغلغلت في جسمها حتى غدت جزءًا منه، وبالتالي فإن مشي الزائرين في جنباتها يعني أن تتشرّب أجسادهم هذه العطور إلى الحد الذي يصبحون فيه قابلين لضخه في الفضاء حولهم. وهنا بالضبط تكمن قوة مدينة الأنوف، إذ إن مدينة العيون، على روعة ما تقدمه في أحيان كثيرة، تبقى مصرة على الحفاظ على مسافة معنا، ضمن علاقة الذات والموضوع، في حين أن الأولى تجعلنا نصبح نفَسًا منها.
هو استخدام جديد للفضاء. ربما يبدو مجردًا عند من يسمعون عنه، إلا أنه ملموس لمن يمشون في الشوارع وممرات الأسواق والقاعات، إذ يشعرون أنّ للمشي بعدًا آخر لأنه يُحرض حاسة لم نكن نجيد تفعيلها إلى هذا الحد من قبل. وهنا إذ نمشي على الأرض والأرضيات فإنّ ما يُحركنا ليس الأرجل في حركة خطواتها المعتادة فقط، بل أنوفنا التي تدفعنا للتحليق فوق هواء الروائح الطيبة.
في مدينة الدوحة، كل شخص موجود بالضبط في المكان الذي يريد أن يكون فيه، ولا نراه راغبًا إطلاقًا في الإسراع إلى وجهته كما هو الحال في البلاد الغربية
لا يحتوي كل متجر من متاجر الدوحة على إعلانات مرئية وحسب، بل لديه رائحة تجذب العملاء. فكما تمتزج ثرثرة أصوات الناس في الشوارع في صوت واحد هو خلفية مشهد الحياة في المدينة، كذلك تمتزج الروائح المنبعثة من المحلات التجارية الصغيرة في كلٍّ عشوائي ومتناغم في آن، وسرعان ما ننصاع ونذهب لأجل استكشافها.
على خلفية هذه الرائحة، تكتسب حشود الناس اليومية خصوصيتها، ففي ألمانيا الحشود قمعية للغاية، قمعية في إسراع أفرادها، وقمعية في انشغال كلّ منهم بنفسه، بينما تبرع الدوحة في جعل التجمعات الكثيفة من الناس جزءًا طبيعيًا من حياة المدينة، ولا أحد يشعر بالحاجة إلى الخروج من المجتمع بأسرع ما يمكن. بل على العكس من ذلك، يعطي تجمع الغرباء والسياح والسكان المحليين الانطباع بأنهم هنا للسبب نفسه، وهو الاستمتاع بلقاء المجهول مع الآخرين، كي يصبح مألوفًا.
كل شخص موجود بالضبط في المكان الذي يريد أن يكون فيه، ولا يرغب في الإسراع إلى وجهته، كما هو الحال في الغرب.
الاستخدامات المختلفة للفضاء لا تقتصر على البشر وحدهم، فحيث نرى في ألمانيا مساميرَ موضوعةً في كل ركن من الأماكن العامة لمنع الحمام من التعشيش، تعيش حمائم الدوحة كجزء طبيعي من سكان المدينة.
حتى الطبيعة تتصرف بشكل مختلف عما هي عليه في أوروبا، فدائمًا ما نلاحظ في الغابة عند الغسق تحولًا غريبًا، وهو أنها في غضون دقائق قليلة تتحول من خضرتها النابضة بالحياة إلى ليلٍ حالك السواد. في حين أن الصحراء عند الغسق مختلفة تمامًا، إنها تتحول ببطء شديد مع كل لحظة من لحظات غروب الشمس. تتغير ألوان الرمال إلى درجات مختلفة من اللون نفسه، ثم تنتقل إلى لون جديد، ومع اختفاء آخر أشعة الشمس تتوقف لعبة الألوان.
سوق واقف ومشيرب
بين أحياء الدوحة الكثيرة، ثمة مكانان يجسدان سرها بطريقة تبدو أقرب إلى الفصام بالنسبة للذين لم يزوروا قطر.
في الواقع يمكننا أن نرى أن هناك تجاورًا بين التقليد والحداثة، وهو تجاور ربما يكون فريدًا: فالحداثة والتقليد ليستا مرحلتين من التطور يجب أن تحلّ إحداهما محلَّ الأخرى، كما أنهما ليسا متنافستين على المطالبة بالحقيقة والمطلق. التقليد والحداثة كيانان مستقلان لا يجب عليهما الخوف من المنافسة، بل عليهما الاستفادة من خصومهما دون الاعتماد عليهم طبعًا.
المراكز المادية للمدينة هي تجلٍّ لشخصية البلد، وهي تكمل بعضها البعض لتشكل صورة شاملة معقدة للتقاليد والحداثة.
تجد أزقة سوق واقف غير المنتظمة والصغيرة والمربكة بأسطحها وجدرانها المائلة نظيرها في شوارع حي مشيرب الواسعة والمتناسقة.
تتقابل الكثافة والعطور في أزقة السوق مع ثرثرة نوافير مشيرب الواسعة.
بعد ألفتنا مع سوق واقف، نتنفس الصعداء في أريحية التصميم الحديث. وحيث نكون في أيّ منهما نشتاق إلى احتضان الجزء الآخر.
على هذا النحو، يمكننا أن نرى الدوحة مدينةً تقليدية وحديثة، ما يسمح للمقيمين والزوّار على حد سواء باختيار النمط الذي يريدون العيش فيه، سواء على مدى الحياة، أو خلال فترة ما بعد الظهر ليوم واحد.
متحف العبودية
لا تنعكس حداثة الدوحة الحقيقية في مكان أوضح مما تنعكس عليه في متحف العبودية المسمى "بيت بن جلمود".
لا يقتصر الأمر على إلقاء نظرة قاسية على تاريخ العبودية الذي يمتد إلى يومنا هذا، بل إن تصميم المعروضات الذي يشبه رواية قصة يضع المتاحف الأخرى في الظل.
لا تنعكس حداثة الدوحة الحقيقية في مكان أوضح مما تنعكس عليه في متحف العبودية المسمى "بيت بن جلمود"
إلى جانب المعروضات واللوحات والوثائق، ثمة عدة فيديوهات في مختلف أنحاء المتحف، يتحدث فيها المستعبدون إلينا بعدما أعاروا أصواتهم ووجوههم لممثلين يخبرونا عن معنى العيش في الاستغلال.
المسافة المعتادة التي نشعر بها عادة في المتحف تزيلها هذه المنشآت. وفعلًا يبدو المستعبدون يتحدثون إلينا من اللاوعي الجماعي للإنسانية، ويخبروننا بأشياء كنا نفضل عدم سماعها.
هنا حبستُ أنفاسي: كان من الممكن أن أكون واحدًا من هؤلاء، وفقط حظوظ القدر هي التي جعلني سائحًا في هذه المدينة الجميلة، وليس غواص اللؤلؤ الذي يلقى حتفه في المياه الفيروزية التي أُعجبت بها من الخارج في وقت سابق من ذلك اليوم.
المتحف الإسلامي
بدا المتحف الإسلامي جزءًا صغيرًا من متحف كبير، فعمارة الدوحة بأكملها لها طابع متحفيّ لم أتمكن من تجربته من قبل سوى في مدينة فيينا.
كل مبنى، بل كل جزء من كل مبنى، مدروس بشكل جيد، ويجب أن يبدو تمامًا كما يبدو. لا يوجد شيء عرضي أو اعتباطي، فكل شيء يتناسب مع كل شيء، لتكون الحصيلة هذا الكل المتناغم.
المدينة رائحة
ومع اللقاءات الإنسانية تكتمل الصورة. نحن داخل مبخرة. كل تفصيل في المدينة خيطٌ من دخانها المعطّر، وكل ساكن من سكانها كذلك، وكله يذوب في السحابة العطرية الكبرى التي نتجول في داخلها في رحلة نادرة يتوازن فيها عمل الروح مع الجسد، فلا نعرف هل مشينا على أرضها حقًا، أم أننا رأيناها في منام!