24-يوليو-2016

بطرس المعري/ سوريا

رزقت بطفلة في بلاد الغربة، طفلة لا تعرف أن لها بلدًا آخر غير هذا البلد، بلد يحتل ذاكرة والد ووالدة.

ستكبرين يا حبيبتي وقد حرمت من الكثير، ستحرمين من اجتماع العائلة حول المدفأة ليلًا، حين تنقطع كهرباء البلد، ستحرمين من البطاطا المقلية مع البصل في فرن المدفأة، من الخبز المقرمش على جدران المدفأة، من إبريق الشاي على سطح المدفأة، ستحرمين من رؤية عود الثقاب يسقط من فوهة المدفأة، ستحرمين من المدفأة نفسها، ستحرمين من تفقد البنطال الرطب والبلوزة المبللة، ستحرمين من الانزعاج من ملاقط الغسيل التي تضبط الملابس المعلقة على الأسلاك غير الشائكة، عابرة غرفة الجلوس الوحيدة الدافئة في بيت اعتاد الظلمة واعتاد البرد، اعتاد العفونة والرطوبة، وتقبل بسرور رشح الماء من سطحه كلما أنعمت السماء على أهله بالمطر. 

ستحرمين من صرخة أب أو أخ لأخت تخرج من غرفة الدفء وتنسى إغلاق الباب، ستحرمين من احتجاج طفل دهس كبير قدمه في زحمة الالتفاف حول صينية الطعام، ستحرمين من احتجاح ناعس لدغته النسمات المتسللة من شباك الصالون المفتوح.

وماذا أقول لك أيضًا يا ابنتي المسكينة التي اعتادت على مشاهدة ما تريد من برامج تلفزيونية تلائم طفولتها أنى صرخت، هل سأخبرك عن سندباد بحري خرج من بغداد ولم يعد بعد أن استقبلته بلدان اللجوء؟ أم عن ماوكلي من فقد صرخاته بعد أن فقد أهلًا في حروب الغابات القاسية بين جيوش لا تعرف مدافعها حرمة لشجر سرو أو لشجر صنوبر متنسك؟ ولا تحترم دباباتها سباتًا شتويًا لسناجب مسكينة، أو لأرانب وديعة لا تعرف شر الإنسان ولا تدرك تهم الكسل والتنبلة التي ألصقت بها كي يؤلف شخص ما حكمة من قصة تتغلب فيها سلحفاة بطيئة على أرنب سريع؟.

هل سأخبرك عن نسر ذهبي يطير في سماء مدن الذهب الغامضة التي يدرك والدك ووالدتك أنها تلمع تحت سماء بلاد تحتل ذاكرتهما؟ هل سأخبرك عن فلونة الشقية وكعبول الشره والأميرة كل شبر بندر وفترات الرياضة الصباحية البغيضة؟ أم عن غضب الأطفال على حديث الجمعة الديني الذي يخترق مساحاتهم الطفولية، وكيف سأشرح لك ماذا يعني يوم الجمعة في بلد لا يعرف عطلة إلا في سبته وأحده؟ كيف سأشرح لك ماذا يعني صحن الفول وطبق الفتة؟!

ستحرمين يا صغيرتي من تقطيع الخبز في صينية الألومنيوم العتيقة؟ وستحرمين من حمل الصينية بعد أن يهندسها طباخ المطعم القريب ويرش فوقها فلفل الغرام الأحمر وكمون العشق، ستحرمين من تفقد حبات الحمص المسوسة ومن الاحتجاج على الملوحة الزائدة، ستحرمين أيضًا من متعة الزج بك في مطبخ تتناثر أشلاؤه بين المجلى والأرضية، ومن متعة ترتيب البراد وتوضيب ربطات الخبز الاحتياطية، ستحرمين من العودة بكفين متجمدتين بعد الانتهاء من الجلي لتطلبي حق اللجوء الإنساني لمحيط الدفء العائلي. 

وبماذا أجيبك يا طفلتي حين ستسألين عن تلك العجوز التي تظهر في صور طفولتي وقد شقق الزمن جبينها؟ وكيف أشرح لك ماذا تعني "الجدة والجد" في بلاد تحتل الذاكرات؟ هل أجعل من قصة بائسة كليلى والذئب مثالًا؟ أم أحكي لك عن قبلات جدي المزعجة والشائكة لأزيد من حرمانك، جدي كان يقبلني "ذقنه تشوكني"، جدي كان يخبئ لي قطع السكاكر التي لا يوجد سوى نوع واحد منها في طول البلاد وعرضها.

جدي كان يقول: الدم أكثر كثافة من الماء. جدي كان يسمح لي أيضًا بتذوق القهوة المرة، نعم يا ابنتي في بلادك التي لا تعرفينها للقهوة مذاق مر، للشوارع أيضًا طعم مر، لكل شيء هناك طعم مر، إلا صباح العطلة الذي ستحرمين منه، فصباح العطلة يا ابنتي في بلادك التي لا تعرفين حلو الطعم، وله رائحة التراب ولون البحر، وصباح العطلة في بلادك التي لا تعرفين حسرة للناضجين، ستحرمين يا حبيبتي من كل ذلك، وربما تسأليني حين تكبرين: كيف كتبت ما كتبت؟ وكيف ظننت بأنني سأحرم مما لا أعرف؟ 

لكنني سأكون كبيرًا جدًا كي أتذكر ما خبأت لك من إجابات، حينها قد أكتفي بالابتسام. أما الآن وأنت صغيرة جدًا وتمتلكين بسبورًا لا أمتلكه، وحاضرًا لا أمتلكه، وهواء لا أمتلك أوكسجينه، فسأسمح لبساط الريح بأن يحمل أفكاري، وسأسمح للمصباح بأن يخرج مارده ليقدم طلب لجوء ويؤانس غربتي، وسأسمح للأربعين حرامي بأن يزاحموا غرفتي ويدهسوا قدمي، وسأسمح للذئب بأن يأكل جدتي، وللأسد بأن يسافر حول العالم في واحد وثمانين يومًا ويعود إلينا بقصصه، وسأسمح لنفسي بأن أهذي وأهذي وأهذي في بلد لا أعرف يوم الجمعة فيها.