15-يونيو-2017

تحمل قضية تيران وصنافير دلالة كبرى على فساد خطاب دولة يوليو (محمد الشهيد/أ.ف.ب)

ما حدث في قضية تيران وصنافير يُعيدنا إلى المكتبة السياسية القديمة، ويحثنا على ضبط المصطلحات، لذا فإنه من المهمة في هذه النقطة الوقوف على مصطلح الدولة الوطنية ومقوماتها، وشكل حكامها وتمثلاتها في العصر الحديث، ومقارنة هذا الشكل بما سبقه من حكم استعماري استبدادي  للإمبراطورية الرومانية الذي قاومته فيما بعد مُعظم ما جاء في المكتبة الفلسفية السياسية في محاولة لتكريس سيادة القانون.

ما حدث في قضية تيران وصنافير يُنبهنا لضرورة ضبط المصطلحات لقدرة أكبر على التعامل مع الواقع

لطالما اسُتخدم مصطلح الدولة الوطنية (Nation State) للدلالة على أغلب الدول التي تتمتع بالسيادة اليوم، بغض النظرعن تطابق المحددات الجغرافية للمصطلح مع الحدود الإثنية أو القومية. ولأنه مصطلح إشكالي للغاية، فقد انقسم الباحثون في التعامل معه إلى قسمين، أحدهم يرى أن المصطلح آخذ في التلاشي لضعفه عمليًا في مواجهة التحديات الكبيرة، وآخرون يدافعون عن "أبديته" و يرونه مفهومًا متجاوزًا للصراع وقادرًا على التأقلم والتكيف مع المتغيرات.

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة: "الجيش والسياسة" مدخلًا لفهم الدولة الوطنية العربية

ولعل أحد المنعطفات التاريخية العتيقة التي ساهمت في ترسيخ المفهوم هو صُلح وستفاليا عام 1648، الذي أهى حرب الثلاثين عامًا، وأرسى شكل الدولة الوطنية الأوروبية الحديثة ذات السيادة، وتراجعة الإمبراطورية الرومانية المُعمّرة، واتخذت الكنيسة خطوات إلى الوراء وهي ترى الأمراء يُقررون العقائد لرعاياهم.

وربما شكّل وستفاليا بداية للثورة على شكل الحاكم الإمبراطور الذي يحكم بموجب صلاحيات استثنائية مُطقلة، في مقابل شكل علماني للدولة التي يسكنها مجموعة بشرية وتحدها حدودي كغرافية معينة ويحكمها دستور هو الوثيقة العليا لتنظيم شؤون الدولة.

أما معاهدة مونتفيدو التي وقعتها الولايات المتحدة الأمريكية مع بيرو والبرازيل عام 1933، لتعريف الدولة الوطنية وحدودها وواجباتها، فالأكثر شهرة فيها هي المادة 1، التي تحدد أربعة معايير للاعتراف بالدولة، والتي أقرتها المنظمات الدولية بوصفها بيانًا دقيقًا للقانون الدولي، وهي: السكان الدائمون، والإقليم المحدد، والحكومة، والقدرة على الدخول في علاقات مع الدول الأُخرى. أمّا الجملة الأولى من المادة 3 فهي تنص صراحةً على أنّ "الوجود السياسي للدولة مستقل عن اعتراف الدول الأخرى"، وهذا ما يُعرف بنظرية الدولة التصريحية. 

دولة الإمبراطور

وبالعودة إلى الامبراطورية الرومانية بصفتها نموذجًا للحكم الاستبدادي الاستعماري التوسعي، يحكم فيها الإمبراطور الروماني بصفته الحاكم الفرد، ولا يحق المشاركة السياسية إلا للأفراد الذكور من الطبقات النبيلة، ويُحرم منها النساء و"العبيد"؛ تبدو وكأنها ليست بعيدة عن كثير مما تمارسه الدول الوطنية القومية المعاصرة التي تتبنى خطاب الحاكم الفرد.

ارتكز خطاب الجيش المصري بعد ثورة الضباط في 1952، على "الدولة القومية الوطنية ذات السيادة"، وعلى عبارات مثل "الأرض تساوي العرض"

حتى في العصور التي تجاوزت الإمبراطورية الرومانية بردح طويل من الزمان، توقف الخطاب الإنساني طويلًا أمام عبارة لويس الرابع عشر: "أنا فرنسا"، ليأتي بعدها سلسلة من الفلاسفة السياسيين الذين أسسوا لفكرة الديمقراطية لتكريس سيادة القانون. لكن شهوة السلطة لم تتوقف عند لويس الرابع عشر ولا نابيليون، بل عززها التأويلات الفلسفية لفكرة الحاكم الإله عند ميكافيللي.

مصر.. النموذج المركب

بعد ثورة الضباط في مصر عام 1952 على النظام الملكي، بدأت المؤسسة العسكرية الحاكمة وقتها بمجموعة من الإجراءات القاسية ضد ما أسموه وقتها بـ" فلول الحكم البائد"، فسحبوا الجنسية من أفراد الأسرة الحاكمة، وتم نفيهم خارج البلاده، وصودرت أملاكهم وأراضيهم.

اقرأ/ي أيضًا: العسكر والإرهاب.. ثنائية هدر الإنسان المصري

أما المقولات السردية وقتها للجيش المصري بصفته المؤسسة الحاكمة، فقد تمترست خلف الدولة القومية الوطنية ذات السيادة، التي تحكم المصريين وتحافظ على الأرض وتدافع عنها ضد التدخل الأجنبي. وقد غازلت بعض هذه المقولات الملمح الذكوري في المجتمع باعتبار أنّ "الأرض تساوي  العرض". 

وانطلق الجهاز الإعلامي بكل أطيافه في مجتمع ما بعد 1952، من صحف وأفلام و مسلسلات وأغان وأوبريتات وطنية حماسية، ليتحدث ليل نهار عن "وطنية الحدود"، و تفرد "الشخصية المصرية". ولطالما ابتزت المؤسسة العسكرية في مصر مواطنيها وأذلّتهم، خاصة في السنوات القليلة الماضية بخطاب الحدود والتراب والمؤامرة على الأرض، فجعلتهم يدفعون فاتورة غالية من حقوقهم وحرياتهم، وأحيانا من دمائهم وحياتهم من أجل سداد هذه الجزية، وهي الجزية التي حصّلتها وتُحصّلها يوميًا من المصريين لقاء هذا الزعم الوهمي بـ "حماية الدولة/ الأرض/ الحدود".

جعل هذا من الأرض بوصلة الخطاب القومي الحديث، لكنه الآن بات يُهدم من الأساس في قضية تيران وصنافير، وللمفارقة البائسة فإنّ هذا هو الخطاب الذي استخدمته دولة يوليو لإشهار سلاح التخوين والمزايدة على كل من حاول الخروج من جلبابها الضيّق والفاشي، إلى رحابة دولة القانون.

فما هو شكل الدولة التي يريدها هذا النظام اليوم؟ بالتأكيد ستكون دولة أبعد ما يكون عن النظام الديمقراطي التي يسعى إلى تداول السلطة وتشجيع الحراك السياسي المجتمعي، ولكنه لا يمتلك أيضًا مُقوّمات القوة الاستعمارية للامبراطورية الرومانية الاستعمارية التوسعية المستبدة، لربما هو يريد مزجًا بين الإثنين، يستطيع أن يقول فيه بأريحية: "ماتسمعوش كلام حد غيري"، وأن يحظى بتصفيق حاد في القاعة.

في قضية تيران وصنافير فرصة لهدم خطاب يوليو العسكري، التخويني، والفاشي ضد المجتمع المدني

ويقنن الرئيس كل "قراراته السلطوية" ضد المنصات الصحفية الإلكترونية "المزعجة"، ولأن الشكل دائمًا مهم، لزوم الوجاهة، فقد أطلق قانون الجمعيات المدنية الجديد، ليطلق رصاصة الرحمة أو العذاب على المجتمع المدني المصري وجهوده الخيرية وصحافته غير المواليه له، وبما يمكن أن تشكل تعبئته من خطر عليه.

اقرأ/ي أيضًا: المجتمع المدني في مصر.. صراع الدولة والمواطنين

ولعلّ في تيران وصنافير فرصة لهدم خطاب يوليو العسكري التخويني الفاشي ضد المجتمع المدني بنخبته وأعضائه، وإعادة تعريف لانتهازية المؤسسة العسكرية في مصر، التي أثبتت بالدليل القاطع أنها تسعى لمصالحها الضيقة فقط.

و لعل القضية برمزيتها – بصفتها تتناول الأرض كقضية قومية– تحمل دلالة كبرى على فساد خطاب دولة يوليو منذ بدايته وحتى اليوم، و كأن دولة يوليو تضع نفسها في مواجهة نفسها وخطابها الذي تبنته ضد معارضيها طوال عقود.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نهاية قصة تيران وصنافير.. برلمان السيسي يُعطي ما لا يملك لمن لا يستحق

المجتمع المدني المصري في قبضة أمن الدولة بقانون جديد.. 3 أسئلة تشرح الكارثة