20-أبريل-2017

أنت حمار، كلمتان قادرتان على قتلك إذا قلتهما لأحدهم (Getty)

لمدينة مولاي إدريس زرهون المغربية، قدرة سلسة على أن تتسرّبَ إلى روحك نبضًا.. نبضًا، فتجعلَكَ مبرمجًا على التّحليق/ الصّعود. هي أصلًا لا تملك طريقًا/ دربًا لا يتصاعدُ، ممّا جعل بعض مفاصلها العالية والضيّقة تستعصي على وسائل النقل الحديثة، فعوّضها الحمار.

لا نقول في هذه المدينة إن السّيارة عوّضت الحمار، بل إن الحمار عوّض السّيارة، ومن الصّعب ألا ترى هذا الانقلاب جمالًا وانسجامًا مع روح العصر، إلى درجة أن بعض مثقفي المدينة بادروا إلى تأسيس فعالية أدبية تحتفي بالحمار. أتصوّر أن معظم الشعراء قد ضحكوا حين وصلتهم الدعوة للمشاركة فيها، ولا شكّ في أن كثيرًا منهم عاتب نفسه على ذلك الضحك/ الاستهزاء حين زار المدينة.

كنت أحد المدعوين لحضور هذا المهرجان، لكنّ ظروفًا لا يتحمّلها حتى الحمار حالت دون أن أشارك في نشاط أراه من باب صلة الرّحم، ذلك أن قبيلتي في شرق الجزائر تسمّى أولاد جحيش، وهي إذ تجهل "سبب نزول" التسمية، لا تملك عقدة منها. خاصة الجيل القديم، علمًا أنّ تسمية مثل هذه في مجتمع تعوّد على ربط الحمار بالغباء مدعاة للعقدة.

أنت حمار، كلمتان قادرتان على قتلك إذا قلتهما لأحدهم، رغم هذا فلا عقدة لسكان قريتي في أن يقولوا إننا من أولاد جحيش، كما لا عقدة لدي بصفتي كاتبًا تخرّج من هذا السّياق من أن أكتبه جماليًا في نصوصي السّردية. إنّ أولاد جحيش مكانًا وإنسانًا تكاد تكون بطلًا فيها، خاصة روايتي "ندبة الهلالي"، بعيدًا عن نزعة التشنج من المدينة، حتى وإن أصبحت تعاني خرابًا روحيًا وحضاريًا جعل سلطة الإسمنت أقوى من سلطة الحديقة والشرفة المورّدة.

لقد باتت المدينة الجزائرية مبرمجة على أن يخاف إنسانها من إنسانها، فانسحبت بنيات وتقاليدُ كانت تصبّ في بحيرة التواصل مثل المسرح وقاعات السّينما والفضاءات الليلية، وهي بهذا لم تعد تقدّم حكاياتٍ يتعاطى معها رجل الفن، بل أحداثًا يتعاطى معها رجل الأمن، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا بالذات: هل بقيت القرية الجزائرية تؤثث لحظاتها بالحكايات؟

لست أدري ما الذي جعلني أنتبه، وأنا أشرب شايًا في ساحة المسيرة بقلب مدينة مولا إدريس زرهون، إلى أنّ الحكاية في قريتي بدأت تختفي بشروع القوم في تغييب الحمار بداية الثمانينات، بفعل عودة العاملين في فرنسا بعد تقاعدهم، حيث ارتبطت عودتهم بشراء السّيارات والجرّارات، ثم تكرس غياب الحمار من الفضاء في التسعينات بفعل جماعات الموت والإرهاب التي استوطنت الغابات والجبال والحقول والوديان، أعني الفضاء الحيوي لنشاطات الحمار.

اليوم.. لا يوجد الحمار في قريتي إلا في نطاق الذاكرة، فأنا شخصيًا لا زلت حتى هذه اللحظة أذكر الأتان "طيطشة" التي اشتراها لي أبي خصّيصا لأركبها إلى المدرسة التي كانت تبعد عن حوشنا مسافة تكفي لقراءة "بول وفرجيني" للمنفلوطي ، وكان لا بد من الأتان. قلت الأتان ولم أقل الحمار، ذلك أن قريتنا الهلالية كانت تتجنب تربية الذكور من الحمير، عكس القرى الأمازيغية المحيطة بنا. ولكم أن تتصوّروا معركة النهيق حين يلتقي الطرفان في محيط المدرسة الوحيدة في المنطقة.

مشهد ناهق: لم نكن نتواصل مع زميلاتنا إلا داخل الأقسام، أمّا خارجها، فقد كان ذلك مدعاة لأن نأكل كعكة سمينة من الضّرب على أيدي إخوانهن أو آبائهن أو أحد من العائلة، وكن يتجمعن أسفل منا، قبل أن تفتح المدرسة بابها.

ذات يوم حماري بامتياز: التلميذات القرويات متجمعات داخل ثرثرة خفيفة يؤطرها الحياء، وإذا بحمار يظهر من جهة القرية الأمازيغية ناهقًا خلف أتان راضية، لكنها تمارس هروب الدلال، وحين وصلت إلى كوكبة البنات توقفت ليركبها الحمار من غير أن يترك فاصلًا، الحمار متحمّس للعمل منذ سمّي حمارًا. نحن الذكور هربنا من المشهد إلى أعلى الجبل، والتلميذات هربن منه إلى الوادي، ولم نلتق حتى صباح اليوم الموالي. لقد منحنا الحمار رغم أنف المعلم الذي طالما شبّهنا به.

في اللحظة التي كنت أكتب فيها هذا، وأنا أشرب شايًا في قلب مدينة مولاي إدريس زرهون المغربية: سائحات إسبانيات يطلبن من صاحب حمار أن يسمح لهن بأن يلتقطن صورة مع حماره، وعفويًا تطوّعت لالتقاطها، ليس ظرفًا مني فقط، بل إنصافًا لقريبي الجحش أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

جناح لانزياحات النّـطفة

خيول تركض في الهواء

اعترافات فيسبوكية