04-ديسمبر-2015

محمد صبرة/ مصر

مثلما أن هناك فاشية قومية (القومية العربية كمثال) وفاشية دينية (الأصولية الإسلامية المتطرفة كمثال) فإن هناك فاشية ثقافية. تقوم هذه الفاشيات على مبدأ واحد: امتلاك المعنى، وحق التعبير عنه. القومية العربية ترى في أبناء القوميات الأخرى دخلاء، يتوجب إما طردهم، أو عزلهم، أو أقله منعهم من التحدث عما هو عربي، فلا يحق لأحد التحدث عن العربي إلا العربي ذاته، ويشترط أن يكون من الأقحاح، أي ليس عربي المولد والنشأة فحسب، بل النسب والسلالة، وهو ما يطلق عليه: عربي أبًا عن جد. وهذا ما فعلته القومية العربية البعثية مع الأقليات القومية الأخرى في البلد: الأكراد والتركمان وغيرهم..

الفاشية الثقافية لا تختص بدين ولا بقومية ولا بطائفة دينية ما، بل هي عابرة للأديان والقوميات والطوائف

الفاشية الدينية تجد في "دينها" المعنى والحقيقة، وما سواه باطل وكفر. وترى من هو في "دينها" إنما من طوائف أخرى خارجًا عن "الدين الصحيح"، ويتوجب عليه إما العودة إلى "الدين الصحيح"، وإما قتله بتهمة الردة. هذه الفاشية وجدناها في الأديان في طور تطرفها جميعًا، نتذكر الحملات الصليبة في التاريخ، ونعيش الفاشية الدينية "الإسلامية" في الحاضر على نحو مميت. 

ربما نتذكر أن محمد عابد الجابري قال عن جورج طرابيشي الذي نقد كتابه عن "العقل العربي" إنه مسيحي ويريد أن يتحدث عن الإسلام؟! كأنه يريد أن يقول إن المسلمين فقط يتحدثون عن الإسلام، والمسيحيين عن المسيحية، وهكذا...

أما الفاشية الثقافية فهي لا تختص بدين معين، ولا بقومية معينة، ولا بطائفة دينية ما، بل هي عابرة للأديان والقوميات والطوائف، لا تسأل عن أصول أعضائها، ولا دينهم، ولا طائفتهم، لكنها مثل باقي الفاشيات تدعي امتلاك المعنى والتعبير عنه، وتحتكر ذلك وتمنع عن الآخرين ممن ليسوا داخل هذا "التنظيم السري" حق الكلام عن "دينهم الصحيح" و"قوميتهم" التي هي هنا: الأفكار والكتابة.  هنا تكمن خطورتها: لا قومية، ولا دينية، ما يعني أنها مفتوحة على/ وللجميع. وهذا يوحي أنها ديمقراطية، وشفافة، وتمارس وتمنح الآخرين الحق في ممارسة حريتهم. لكن، في الواقع، أنها ليست كذلك، بل هي أيضًا فاشية، إنما من نوع خاص، باهر، وراقٍ!

يعرف المشتغلون بحقل الكتابة والنشر ذلك منذ وقت طويل، منذ أن كانت الصحف تمتنع عن نشر كتاباتهم بزعم أنهم غير معروفين، وليس لديهم تجربة، وغير ذلك. وقد كان تعبير: "من هذا؟" الاستنكاري شائعًا في سوريا لدى مسؤولي النشر الصحافي أو نشر الكتب. إلا أن ذلك الزمان كان مغلقًا بشدة على نحو جعل الكثير من الكتاب يكدسون أعمالهم على رفوف منازلهم، وبعضهم مات ولم ينشر كلمة واحدة! الآن، في زمن الفيسبوك وتويتر ووسائل التواصل والتعبير الأخرى كالمدونات الشخصية، والمواقع الإلكترونية المفتوحة؛ خرجت الجموع الهائجة عن سلطة الناشر، وبدأت تحطيم الأسوار العاتية للمملكة الثقافية الفاشية.

وانهالت بلا توقف ولا تردد على الكتابة والنشر والهزء من "القامات العالية"، ونزعت عن اللغة حصانتها، وعن الأفكار هالتها، وفجرت، كما يفعل المتمردون، الأسلاك الكهربائية التي تحيط بالسياسة والسياسيين، العرب على وجه الخصوص، وطرحت رؤيتها بلا ديباجات، ولا حسن بيان، ولا بلاغة، ولا شعراء مداحون، بل فعلت ذلك بلسان الناس وأفكارهم ورؤاهم وتطلعاتهم، إذ أن هؤلاء المتمردين الجدد هم الناس.

في زمن فيسبوك وتويتر، خرجت الجموع الهائجة عن سلطة الناشر، وبدأت تحطيم الأسوار العاتية للمملكة الثقافية الفاشية

كان الفيسبوك هو المكان الرحب بلاحدود الذي سمح لهؤلاء/ وشجعهم وحرضهم على قول كل ما كانوا محرومين منه، والتعبير بالشكل الفني الذي يريدونه، بل أكثر، منحهم الحق في تجريب الأشكال أمام الجميع وعلى مرأى منهم. لقد حقق نوعًا من الديمقراطية بأوسع أشكالها.

لم تبق تلك "الهجمة" من هؤلاء "الرعاع" بلا مواجهة. لقد استنفرت الفاشية الثقافية مستندة على تاريخ صنعته وصنعها للحيلولة دون وصول هؤلاء إلى إمبراطوريتها الفارهة، وقالت فيهم ما لم يقله مالك في الخمرة، وشنّعت عليهم وعلى كتاباتهم، واتهمتهم بالغوغائية، وما إلى ذلك... نقرأ في الفيسبوك ضجر أولئك الفاشست من أن "كل من هب ودب" صار يكتب! إذ لا يحق لأحد أن يهب ويدب إلاهم!  لكن، كما يبدو، خرج المارد من القمقم، وليس من السهولة إرجاعه إليه.

آخر الذين عبروا عن ضجرهم وسخطهم من اقتحام الناس عالم الكتابة هو إمبرتو إيكو، فقد وصفهم بأنهم "فيالق من الحمقى"، وبأن ما يحدث في الكتابة جراء وجود الفيسبوك هو "غزو البلهاء". لكن، ما فاته أن لـ "للبلهاء" أيضًا الحق في التعبير والكتابة والتجمع والسخرية وعرض الآراء والتحاور والمشاجرة  والبلوك وإلغاء الصداقة مثلهم مثله تمامًا.

إنه عصر الحقوق، وعصر الناس.

اقرأ/ي أيضًا:

الثورة التي في الكتب.. الثورة التي في الواقع

الثقافة المعقّمة والتطهّريّة